كتاب " حضارة مصر القبطية - الذاكرة المفقودة " ، تأليف منير غبور / أحمد عثمان ، والذي صدر عن مكتبة مدبولي عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب حضارة مصر القبطية - الذاكرة المفقودة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
حضارة مصر القبطية - الذاكرة المفقودة
ومن المعروف كذلك أن البطالمة منذ بداية حكمهم، أقاموا علاقة وطيدة مع الكهنة المصريين الذين امتدت سلطتهم على كل البلاد، كما قام البطالمة بإصلاح وترميم المعابد الفرعونية وأضافوا إليها معابد جديدة شيدوها، أهمها في إدفو، إسنا، دندرة، فيلة، كوم إمبو، واستمر البطالمة طوال فترة حكمهم في بناء المعابد على الطريقة الفرعونية وتقديم القرابين إلى الآلهة الفرعونية، كما ضمنوا للمعابد استمرار ريعها الذي كان قائماً من قبل.
الزعم إذاً بأن الإسكندر وخلفاءه أحلوا حضارة وثقافة هيلينية مكان الحضارة المصرية الفرعونية لا تدعمه الأدلة التاريخية المتوفرة لدينا. وعلى خلاف هذا الزعم، فإن الإسكندر والبطالمة حافظوا على التقاليد الفرعونية كما كانت. بل إن البطالمة أخذوا نظام الإدارة المصري كما هو دون تغيير يذكر، وكان تتويجهم للعرش يتم بالطقوس نفسها الفرعونية القديمة. فقد ظل نظام إدارة البلاد في عهد البطالمة فرعونياً في جوهره، مع استخدام جهاز من الكتبة المصريين الذين يحسنون اللغتين المصرية واليونانية، تم تقسيم البلاد إلى أكثر من 30 إقليماً مع تقسيمات أخرى للمناطق والقرى، كما احتفظ الكهنة المصريون بمواقعهم المهمة ونفوذهم وثرائهم، واستمر العمل بالقوانين المصرية ونظم الإدارة والقضاء التي خضع لها الغالبية العظمى من المواطنين، إلى جانب بعض القوانين الملكية الجديدة التي صدرت بها مراسيم وقوانين في مواضيع خاصة. وفي الأمور العسكرية - ورغم أن البطالمة كان لهم في البداية جيش مكون من المقدونيين والجنود المرتزقة من اليونان والبلقان والكريتيين - فقد تغير الوضع بعد ذلك منذ أوائل القرن الثاني ق. م.، حيث تم تجنيد المقاتلين المصريين في الجيش.
في الجانب الثقافي، استمرت الموضوعات المصرية هي السائدة سواء في الفن أو الدين. وفي راقودة (وهي القرية المصرية التي كانت قائمة غرب مدينة الإسكندرية قبل بنائها، واستمرت بعد ذلك تمثل الحي المصري في المدينة الجديدة) تم إقامة معبد سرابس فوق ربوة مرتفعة وهنا كان السكندريون يتعبدون بحسب الطقوس التي حددها الكهنة المصريون التي ورثوها عن أجدادهم منذ مئات السنين.
"في حي راقودة المصري القديم على ارتفاع بسيط تم توسيعه، وبثراء من الرخام المصري والمواد النادرة التي جمعتها المعابد الكهنوتية بولائها، ارتفع معبد سرابس. كان هذا هو أروع بناء في الإسكندرية، يطل على العاصمة التي يشرف على كل أقسامها من موقعه الغربي. وهنا كان السكان المصريون واليونان يتعبدون عند مذابح واحدة".(6)
وتبعاً للتقاليد الفرعونية مارس العديد من ملوك البطالمة عادة زواج الملك لأخته، منذ عهد بطليموس الثاني. ولم تكن العائلة البطلمية فقط هي التي تبنت عناصر الحضارة المصرية، فقد اعتنق المهاجرون اليونان العاديون عناصر الثقافة المصرية، وخصوصاً في المسائل المتعلقة بالدين ودفن الموتى: "هذا الاستيعاب (لعناصر الحضارة المصرية) انتشر منذ اللحظة الأولى داخل الطبقات الأمية والدنيا، وهي هنا كانت غريبة بالنسبة إلى اليونان، لكنهم تحولوا ببطء - عن طريق الزواج المشترك والتوافق الديني - إلى نموذج تكرر في أماكن أخرى من العالم.
ظلت كتب التاريخ حتى القرن العشرين في العصر الحديث، تعتبر ملوك البطالمة من بين الفراعنة. وقد ضمن جورج آر جليدون (1837-1841) الملوك والملكات البطالمة في قائمة ملوك مصر القدماء، وهو من رجال الآثار البريطانيين الذين عملوا في مصر، كما ضمن جيمس هنري بريستد (وهو عالم أمريكي للمصريات) الإسكندر الأكبر وخلفاءه البطالمة في قائمة الملوك المصريين في كتابه "تاريخ مصر" الذي نشر في 1906م. لكن الموقف تغير تماماً عندما تولى الباحثون الكلاسيكيون (الذين اعتبروا أن اليونان تمثل أصل الحضارة الحديثة) كتابة التاريخ المصري. فقد أصر الكلاسيكيون ومن تبعوهم على اعتبار البطالمة ملوكاً أجانب في مصر، جاؤوا في مهمة لنشر الثقافة اليونانية في البلاد. فرغم أن الحضارة الكلاسيكية اليونانية انتهت مع وفاة الفيلسوف أرسطو عند نهاية القرن الرابع قبل الميلاد، زعم الكلاسيكيون أن نوعاً جديداً من حضارة اليونان - الحضارة الهيلينية- بدأت خارج الأرض اليونانية في الممالك المقدونية، وبخاصة في الإسكندرية، لهذا اعتبر الكلاسيكيون الفترة ما بين وصول الإسكندر إلى مصر في 332 ق.م. والغزو الروماني لمصر في 30 ق.م، هي عصر الحضارة الهيلينية.
التطور العام الذي حدث في القرن الخامس عشر، وأخرج أوروبا من ظلام العصور الوسطى إلى عصر النهضة - رينيسانس - تم نتيجة لإحياء حكمة المصريين القدماء، خصوصاً ما يتعلق منها بالفلسفات الأفلاطونية الجديدة والهرمسية (المتعلقة بهرمس - توت - إله المعرفة) عندئذ كان الأوروبيون ينظرون إلى المصريين القدماء باعتبارهم أصل الحكمة والفنون، ويعتبرون الإسكندرية وثقافتها بمثابة تطور طبيعي للحضارة الفرعونية القديمة. فعندما وصلت بعض الكتابات الهرمسية في 1460 إلى بلاط كوزيمو مديسي حاكم مدينة فلونسا الإيطالية، تمت ترجمتها من اليونانية إلى اللاتينية. وأصبحت هذه الكتابات والأفكار التي تحتويها مركز الحركة الأفلاطونية الجديدة التي بدأها فيشينو الذي تولى ترجمة هذه الكتابات، والتي صارت بعد ذلك نقطة البداية لعصر النهضة. في ذلك الوقت قام عالم الفلك البولندي نيكولاس كوبورنيكوس بطرح نظريته التي تقول بدوران الأرض حول الشمس، التي أدت إلى العودة إلى عقيدة الطبيعة الأصلية لمصر القديمة.
إلا أن الوضع تغير بعد ذلك في القرن التاسع عشر، حيث رفض الكلاسيكيون أفكار عصر النهضة فيما يتعلق بالأصل المصري للحضارة، كما رفضوا قبول كتابات اليونان القدماء الذين تحدثوا عن التأثير الفرعوني على الفكر الغربي، وكما كتب جون بيرنت: "الفكرة الشائعة حتى الآن هي أن اليونان أخذوا فلسفتهم بشكل ما عن مصر وبابل، لهذا لا بد لنا من محاولة تفهم ماذا تعني هذه الفكرة حقيقة ... فمعظم ما تم اعتباره شرقياً قد يكون محلياً. أما فيما يتعلق بالتأثير المتأخر، فلا بد لنا أن نصر على عدم وجود أي كاتب في عصر نمو الفلسفة اليونانية يعرف شيئاً عن قدومها من الشرق ... فأفلاطون الذي كان يحترم المصريين لأسباب أخرى، يصنفهم كأناس عمليين وليس كفلاسفة، ولم يتحدث أرسطو سوى عن أصل الرياضيات في مصر ... ولم يحدث إلا متأخراً عندما بدأ الكهنة المصريون ويهود الإسكندرية يتنافسون لاكتشاف أصل الفلسفة اليونانية في تاريخهم الخاص، عند ذلك ظهرت روايات تقول بأن الفلسفة اليونانية جاءت من فينيقيا أو مصر".(7)
في العصر الحديث تم تأكيد الطبيعة الفرعونية لمصر البطلمية، بفضل أعمال البحث الأثري كما سيتضح لنا فيما بعد، وقد تحدث الباحث البريطاني بيتر جرين عن هذا الموضوع فكتب يقول:
"من الصعب متابعة انتشار الأفكار الثقافية اليونانية في... الشرق بأية ثقة حقيقية وتفسير أدبي حقيقي بين الثقافة اليونانية والثقافات الأخرى، فليس هناك أي أثر لهذا، فمن ناحية فإن الترجمة الأدبية (عن اليونانية)... تبدو غير موجودة، وهي علامة مؤكدة على الاختلاف في الذوق... ففي مجال الفنون المرئية والعمارة والموسيقى (وهو المجال الذي يوجد فيه القليل من الأدلة المكتوبة) توحي بتأثير النماذج والأدوات الشرقية على اليونانية، حتى في مجال الفن والمعمار، فما يشار إليه عادة كدليل على انتشار (الثقافة اليونانية) بهذه الطريقة ليس هو كذلك".(8)
كما بينت الدراسات الحديثة عدم صدق ما قال به الباحثون الكلاسيكيون: "بدلاً من اعتبار وصول الإسكندر الأكبر وقائده بطليموس ممثلاً خطاً فاصلاً في التاريخ المصري، يمكن القول بأنه برغم أنه من المؤكد حدوث بعض التغييرات السياسية المهمة فيما بين منتصف الألف الأول قبل الميلاد ومنتصف الألف الميلادي الأول، فإن هذه التغيرات جرت ضمن عملية تدرج مريح نسبياً لتغييرات اجتماعية واقتصادية، وقد تكون عناصر مهمة من الحضارة الفرعونية قد عاشت - تقريباً كما هي - لآلاف السنين، بعد مرورها بتغييرات سياسية وثقافية عند بداية العصر الإسلامي في 641 ميلادية".(9)