كتاب " حضارة مصر القبطية - الذاكرة المفقودة " ، تأليف منير غبور / أحمد عثمان ، والذي صدر عن مكتبة مدبولي عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب حضارة مصر القبطية - الذاكرة المفقودة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
حضارة مصر القبطية - الذاكرة المفقودة
"تعودنا تصور الإسكندرية الهيلينية كمدينة ذات بيئة يونانية خالصة، بحيث تشبه معابدها ما هو موجود في أثينا أو إفسوس، وحيث أظهر القسم اليوناني من السكان المسيطر عادات وأذواقاً يونانية، دون وجود أعمال أجنبية... ومن المعروف جيداً وجود أناس من أصول مصرية في المدينة (الإسكندرية)، ومع هذا فإن الفكرة السائدة هي أنه، لا يجب أن تكون في الإسكندرية أية إشارات إلى وجود طقوس عبادة محلية تتبع التقاليد المصرية، كيف إذاً يمكننا تفسير الوجود الفرعوني في الإسكندرية؟"(17)
وبدلاً من أن يجيب عن السؤال الذي طرحه، رفض يويوت القبول بأن البقايا الفرعونية التي عثر عليها الغطاسون عند قاع البحر، كانت لها علاقة بالقصر الملكي أو الإسكندرية البطلمية بشكل عام. وأصر يويوت على أن المدينة التي بناها البطالمة، ظلت عالماً يونانياً خارج مصر وموازياً لها. أما البقايا الفرعونية التي وجدت في قاع البحر فيصر يويوت على أنها لم تصل إلى الإسكندرية إلا بعد حوالي سبعين سنة من نهاية حكم كليوباترا، حيث أحضرها الإمبراطور الروماني جايوس كاليجولا (37-41 م.). وينهي يويوت تحليلاته قائلاً:
"لا يجب ألا تنحرف أفكارنا بسبب الأثر الاستعراضي للفراعنة والهيروغليفية، (علينا) أن نحدد مهمة رجال الآثار المتخصصين في دراسة الفن الهيليني (اليوناني) والروماني و(العصر) المسيحي الأول".(18)
هل كانت الإسكندرية حقاً مدينة يونانية على حدود مصر كما يصر البروفيسير يويوت، أم أنها كانت مدينة مصرية تمثل امتداداً للحضارة الفرعونية؟ هل صحيح أن عاصمة البطالمة صارت تمثل مرحلة هيلينية جديدة لحضارة اليونان التي انتهت في أثينا، أم أنها كانت تمثل المرحلة الأخيرة لحضارة الفراعنة المصريين؟
قرر الإسكندر الأكبر بناء مدينة الإسكندرية في تاريخ يحدد عادة بالسابع من أبريل 331 قبل الميلاد، في موقع شرقي راقودة التي كانت قرية مصرية للصيادين منذ ثلاثة قرون على الأقل من بناء المدينة الجديدة، وكان الموقع الذي تقرر بناء المدينة الجديدة عليه بمثابة مستطيل ضيق من الأرض، يمتد حوالي ميلين بين البحر المتوسط شمالاً وبحيرة مريوط جنوباً. كما كانت هناك جزيرة فاروس على بعد نصف ميل في البحر قبالة هذه الأرض، تحمي موقع المدينة من أمواج البحر كما تساعد على تكوين ميناء طبيعي، وتم تقسيم المدينة عند بنائها إلى ثلاثة أقسام:
1 - القسم الغربي يمثل قرية راقودة القديمة الذي أصبح مسكناً للعناصر المصرية في العاصمة الجديدة، وكان به معبد السرابيم الرئيسي في الإسكندرية، وكذلك المدافن التي تقع في أقصى الغرب.
2 - صار وسط المدينة المطل على الميناء يعرف باسم بروخيان، وهو القسم الذي شيدت فيه القصور الملكية وسكنه المقدونيون واليونان، هنا كانت دواوين الحكومة والأسواق التجارية والبنايات العامة، بما في ذلك الموسيون - المتحف - والسوما التي تحتوي على مدافن الملوك، بما في ذلك المدفن الذي وضع فيه جسد الإسكندر لبعض الوقت.
3 - أما القسم الثالث الواقع شرقي المدينة فقد سكنته في البداية الجماعات اليهودية التي شجعها الإسكندر وخلفاؤه على المجيء إلى المدينة ومنحوهم بعض الامتيازات.
منذ بداية أعمال الكشف الأثري لم يهتم علماء المصريات بمدينة الإسكندرية، التي اعتبروها مدينة يونانية هيلينية وليست مصرية. لهذا ترك أمر البحث الأثري بها لمديري المتحف اليوناني الروماني، الذي تم بناؤه في 1892م. ولم يتغير هذا الوضع إلا في 1961م عندما عثر الغطاس السكندري كمال أبو السادات على تمثال ضخم، نائم فوق قاع البحر أسفل قلعة قايتباي، شرقي جزيرة فاروس القديمة، وعندما تمكن أبو السادات من إقناع رجال البحرية من انتشال التمثال من قاع البحر، تبين أنه يمثل إحدى ملكات البطالمة التي ظهرت على شكل المعبودة الفرعونية إيزيس. ثم جاءت الخطوة الثانية عندما قررت السلطات المصرية تقوية الدعامات الموجودة في البحر؛ لحماية الجانب الشرقي للميناء القديم، وهو نفس الموقع الذي وجد فيه التمثال، أرادت السطات التأكد من عدم وجود آثار أخرى في هذا الموقع قبل ردمه بالحجارة، فطلبت المساعدة من هيئة اليونسكو العالمية التي أرسلت البريطانية أونور فروست لفحص الموقع، وجاء تقرير الخبيرة البريطانية يؤكد وجود آثار قديمة مغمورة تحت سطح الماء أسفل أسوار قلعة قايتباي.
وعندما تقرر السماح لأصحاب البنايات الواقعة في وسط الإسكندرية بهدمها وإعادة بناء عمارات حديثة مكانها، أرسلت الحكومة بعض رجال الآثار لفحص هذه المواقع والتأكد من خلوها من البقايا الأثرية، قبل تشييد الأبنية الجديدة. وفي 1992م دعت السلطات المصرية المركز الفرنسي للدراسات السكندرية إلى القيام ببعض أعمال الكشف في هذه المواقع، وسط المدينة، وقام المركز الفرنسي بعمل حوالي عشر حفريات في مواقع مختلفة من وسط المدينة المسكونة، إلى جانب موقعين تحت سطح الماء عند الميناء الشرقي، وكذلك في منطقة الجبانة غربي المدينة القديمة، وفي العام نفسه منحت السلطات المصرية تصريحاً للمعهد الأوروبي للبحث الأثري تحت الماء، بالانضمام إلى عمليات الكشف، وبدأ العمل في القسم الشرقي للميناء الشرقي، حيث ساد الاعتقاد بوجود الحي الملكي للبطالمة.
بعد ست سنوات من العمل الكشفي الذي قام به المعهد الفرنسي، استطاع رجال الآثار من دراسة تتابع طبقات الأرض خلال كل مراحل البناء في الإسكندرية القديمة، وهكذا تمكنوا بعد حفر عشرة أمتار تحت سطح الأرض من استعادة ألفين و300 سنة من التاريخ، تمتد من أيام حكم المماليك (1250-1517) وحتى أول جماعة استوطنت المدينة خلال القرن الثالث قبل الميلاد، أما القبور المستديرة التي عثر عليها في كوم الشقافة - غربي موقع راقودة القديم - وعلى عمق 20 متراً تحت سطح الأرض، فتبين أنها ترجع إلى فترة الحكم الروماني، وهنا - حتى بعد مضي أكثر من مائة عام على نهاية حكم البطالمة - وجدت عناصر فرعونية في هذه المقابر. ففي أعلى مدخل القبو الرئيسي للمقبرة وجد شكل مفرغ فوق كورنيش فرعوني مستدير، يمثل صقرين على جانبي شمس مستديرة لها جناحان، وفي داخل المدفن عثر على منظر فرعوني كذلك فوق التابوت، يمثل عبادة عجل أبيس وتحنيط أوزوريس، كما وجد منظر يمثل المعبود حورس ذا رأس الصقر وتابوتاً له رأس أبى قردان يحيطان بأنوبس حارس الموتى في النظام الفرعوني، الذي يقوم بتحنيط جسد أوزوريس، ومن الواضح أن سكان الإسكندرية، حتى بعد مرور أكثر من قرن على وقوعهم تحت سيطرة الرومان، كانوا لا يزالون يحافظون على العقائد الفرعونية القديمة.
في عام 1994م طلبت السلطات المصرية من عالم الآثار الفرنسي جين إيف إمبرير، أن يضع منطقة قاع البحر الموجودة أسفل قلعة قايتباي ضمن عملية إنقاذ الآثار التي كان يتولاها في وسط المدينة. وبمجرد بداية فحصه للموقع، تمكن من مشاهدة كتل حجرية ضخمة مكومة على عمق 8 أمتار تحت سطح الماء - ومئات من القطع منتشرة فوق مساحة تبلغ حوالي خمسة أفدنة فوق قاع البحر. وعثر فريق إمبرير على بقايا تمثال يمثل جذع إنسان وحوالي ست قواعد لتماثيل أصغر حجماً وأجساد لأشباه أبى الهول التي فقدت رؤوسها. في الإجماع تم العثور على حوالي 3 آلاف كتلة من الحجر والمئات من قطع أعمدة فرعونية مكسورة، يبلغ قطر بعضها حوالي 60 سنتيمتراً ويصل قطر أكبرها إلى مترين وثلاثين سنتيمتراً، إلى جانب العديد من قواعد الأعمدة منتشرة فوق قاع البحر.
كما تم العثور على الخرطوش الملكي لرمسيس الثاني من الأسرة 19، منقوشاً على عدة أعمدة على شكل ورق البردي، وقطع مكسورة من ثلاث مسلات لأبيه الملك سيتي الأول. وظهر رسم للفرعون فوق مسلتين وهو يقدم القرابين لمعبودات عين شمس، بينما ظهر الفرعون على جانبين من المسلة الثالثة على شكل حيوان يمثل المعبود سيت قاتل أوزوريس، وظهر على الجانبين الآخرين شكل أبى الهول له رأس إنسان. وبشكل عام زاد عدد أشكال أبى الهول التي وجدت على ما عثر عليه من مسلات: حوالي 25 شكلاً في أحجام مختلفة ومن تواريخ متعددة ما بين الأسرة الثانية عشر والأسرة السادسة والعشرين، وتبين أن هذه الآثار جميعها تم نقلها من مدينة عين شمس إلى الإسكندرية.
ومن أهم ما عثرت عليه بعثة إمبرير عند قاع البحر كان جذعاً لتمثال ضخم منحوت من جرانيت أسوان الأحمر، يبلغ ارتفاعه من القاعدة إلى الرقبة أربعة أمتار و 55 سنتيمتراً، ويمثل ملكاً بطلمياً على شكل فرعون. كما وجدت بقايا ثلاثة تماثيل أخرى: رأسان لفراعنة بطالمة وصدر لامرأة وست قواعد لتماثيل.
وبعد عشرة أعوام من أعمال الكشف الأثري في الإسكندرية، كتب إمبرير يعبر عما شعر به عندما شاهد هذه الآثار الفرعونية بالإسكندرية وعن طبيعة المدينة القديمة:
"هذه المنتجات المتعددة للعصر الفرعوني - أشكال أبى الهول والمسلات والأعمدة على شكل البردي ... تحمل شهادة بليغة على (عملية) الاقتراض (التي تمت) من المعبد في عين شمس التي قام بها البطالمة ثم أباطرة الرومان. وهي تنضم إلى البقايا ذات الملامح الفرعونية التي عثر عليها خلال أعمال الكشف فوق الأرض الجافة (في المدينة) وتعطي ... مدينة الإسكندرية شخصية خاصة، فالمدينة لا بد وأنها في بعض الأجزاء كان لها طابعاً مصرياً."(19)
وهكذا فإن الكشوفات الأثرية الجديدة بدأت تغير الفكرة الكلاسيكية القديمة عن أن مدينة الإسكندرية كانت يونانية، وتظهر طبيعتها المصرية الفرعونية.