كتاب " حضارة مصر القبطية - الذاكرة المفقودة " ، تأليف منير غبور / أحمد عثمان ، والذي صدر عن مكتبة مدبولي عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب حضارة مصر القبطية - الذاكرة المفقودة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
حضارة مصر القبطية - الذاكرة المفقودة
من أنشأ مكتبة الإسكندرية؟
أصر أساتذة الدراسات الكلاسيكية منذ القرن التاسع عشر، على أن مكتبة الإسكندرية لم تكن مصرية بل كانت هيلينية يونانية، وزعموا أن المكتبة أنشأها باحثون من اليونان، الذين أقاموها على نواة من الكتابات والمعارف اليونانية، ولما كانت اليونانية هي لغة الكتابة الرسمية في أيام البطالمة، اعتبروا أن كل ما تمت صياغته بهذه اللغة كان يونانياً، ولا يزال هذا الرأي الغريب هو السائد الآن حتى في مصر نفسها، حيث يفاخر بعض الأساتذة بأن مكتبة الإسكندرية كانت يونانية، فالدكتور مصطفى العبادي - وهو المرجع الرئيسي في مصر بخصوص المكتبة - يؤكد في كتابه "حياة ومصير مكتبة الإسكندرية القديمة"، الطبيعة اليونانية لمدينة الإسكندرية ومكتبتها.
هل كانت مكتبة الإسكندرية التي أسسها البطالمة، مؤسسة يونانية أم مصرية؟
حتى يمكننا الإجابة على هذا السؤال يجب علينا أولاً معرفة تاريخ تكوين المكتبة، ومن كان مؤسسها، وأين كان موقعها في المدينة القديمة. كما يجب علينا كذلك التعرف إلى نوعية الكتابات التي وجدت في المكتبة، وهل كانت تمثل في جوهرها علوماً يونانية أم معارف مصرية. وحتى القرن التاسع عشر كان هناك توافق عالمي على أن مكتبة الإسكندرية بنيت على نواة من حكمة مصر الفرعونية، إلى جانب تجميع النتاج الثقافي لحضارات الشرق الأوسط القديمة وكتابات شعراء بلاد اليونان. لكن هذه الفكرة تغيرت خلال القرن التاسع عشر في عصر ظهور القوميات الأوروبية الحديثة، واستعمارها للعالم الشرقي، عندئذ ظهر رأي جديد بين باحثي التاريخ الكلاسيكي، زعم بأن الإسكندرية وما أنتجته من ثقافة لم يكن مصرياً أو شرقياً، بل كان هيلينياً يونانياً. جاء هذا الاعتقاد نتيجة ظهور أيديولوجية قومية عنصرية في أوروبا، اعتبرت أن الأجناس الآرية البيضاء التي تسكن أوروبا تتفوق في طبيعة تكوينها البيولوجي على الأجناس الشرقية. هذا التطور في الفكر القومي الذي بدأ منذ حوالي قرنين خصوصاً في ألمانيا، نتج عنه ظهور اعتقاد بأن الحضارة الكلاسيكية في اليونان نشأت مستقلة بعيداً عن حضارات الشرق القديمة، ولم تتأثر بها، واعتبرت هذه الأيديولوجية (ذات الطبيعة القومية الرومانتيكية التي ظهرت في أوروبا خلال القرن التاسع عشر) أن الثقافة مرتبطة بالأصل السلالي، هذه الأيديولوجية التي غيرت الموقف فيما يتعلق بعلاقة الحضارة الفرعونية بحضارة اليونان، وبالتالي بالحضارة الأوروبية الحديثة.
لما كان من المعروف أن الحضارة الكلاسيكية في اليونان انتهت حتى قبل بناء مدينة الإسكندرية أو مكتبتها، فقد استخدم الكلاسيكيون تعبيراً جديداً للدلالة على ما أنتجته الإسكندرية من ثقافة، هو "الهيلينية" بمعنى الثقافة اليونانية التي لم تظهر في بلاد اليونان نفسها، وإنما في الخارج - خصوصاً في الإسكندرية - قام بتقديم هذا التفسير للمرة الأولى المؤرخ الألماني يوهان جوستاف درويسون في القرن 19، ثم صار بعد ذلك بمثابة الكتاب المقدس للباحثين الكلاسيكيين في كل أنحاء العالم. وحتى يؤكد الكلاسيكيون صحة نظرية درويسون، قاموا بإعادة تفسير مصادر التاريخ القديم لكي تتفق معها، ولما كان المصدر الرئيسي لما يسمونه "ثقافة هيلينية" قد جاء من مكتبة الإسكندرية، أصبحت هذه المكتبة مركزاً لاهتمامهم، قالوا إن مكتبة الإسكندرية بناها اليونان، الذين أقاموها على ركيزة من العلوم اليونانية. إلا أن هذا القول يتناقض كلية مع ما نعرفه من المصادر المعاصرة للمكتبة.
تؤكد المصادر القديمة الحقائق التالية:
1- بعد اكتمال بناء مدينة الإسكندرية، قام بطليموس الأول (سوتر) بتشييد الموسيون - المتحف - داخل الحي الملكي، ليكون مقراً لبعض شعراء اليونان الذين جاؤوا إلى عاصمته الجديدة للبحث والدراسة، كما شيد معبد السرابيوم في حي راقودة المصري الذي كان يقع غربي المدينة، والذي كان موجوداً حتى قبل بناء الإسكندرية - منذ القرن السادس قبل الميلاد، وقد ذكر المؤرخ الروماني بلوتارخ أن بطليموس طلب من مانيتون الكاهن المصري، تنظيم طقوس العبادة في السرابيوم على الطريقة الفرعونية.
2- قام بعد ذلك بطليموس الثاني (فيلاديلفوس) بتكوين المكتبة داخل معبد السرابيوم، وكلف الملك مانيتون بإعداد المجموعة الأولى من الكتب التي يجب وضعها بالمكتبة، وقام مانيتون بترجمة ما وجده في مكتبات المعابد الفرعونية وعمل نسخة يونانية لها، خصوصاً لمكتبات معابد عين شمس ومنف، ولديها شاهد معاصر رأى المكتبة في معبد السرابيوم قبل حرقها 391 م. بفترة وجيزة.
إذا كانت مكتبة الإسكندرية قد أنشئت في معبد السرابيوم الفرعوني القائم في حي راقودة المصري، وقام بتكوينها مانيتون الكاهن المصري الذي أقامها على كتابات من المعابد المصرية، يصبح من المستحيل على أتباع درويسون الادعاء بأنها كانت هيلينية؛ لهذا قرر الكلاسيكيون تغيير علامات الطريق، حتى يجعلوا الشخص الذي كان مسؤولاً عن تكوين المكتبة يونانياً، ثم غيروا موقعها فجعلوه خارج معبد السرابيوم الموجود بالحي المصري للمدينة.
وجد الكلاسيكيون فرصتهم في خطاب لشخص يدعى أريستس، يقول فيه إن ديميتريوس اليوناني - وليس مانيتون المصري - هو الذي كون المكتبة، ورد ذكر هذا الخطاب أولاً في كتابات المؤرخ اليهودي يوسيفوس خلال القرن الميلادي الأول Antiqities)، XII، ii)، بمناسبة الحديث عن الترجمة اليونانية للتوراة. هذا الخطاب وجهه المدعو أريستيس إلى أخيه، يدعي فيه أنه عمل مسؤولاً في بلاط بطليموس الثاني خلال القرن الثالث قبل الميلاد، ويتحدث عن ظروف ترجمة التوراة العبرية، يبدأ الخطاب بالحديث عن كيف أن ديميتريوس (الذي حسب قوله عينه بطليموس الثاني مديراً للمكتبة) نصح الملك بترجمة التوراة، وهو الذي كان مسؤولاً عن جمع الكتب من كل أنحاء العالم لترجمتها ووضعها في مكتبة الإسكندرية، فبعث الملك بخطاب إلى الكاهن الأكبر في القدس، يطلب منه موافاته بنسخ من كتب توراة موسى الخمس. وسافر أريستيس للقاء الكاهن إليعازر في القدس، طالباً منه إرسال مجموعة من الكتبة اليهود إلى الإسكندرية للقيام بعمل الترجمة.