كتاب " حضارة مصر القبطية - الذاكرة المفقودة " ، تأليف منير غبور / أحمد عثمان ، والذي صدر عن مكتبة مدبولي عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب حضارة مصر القبطية - الذاكرة المفقودة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
حضارة مصر القبطية - الذاكرة المفقودة
وهكذا نرى أن الحركة القومية الجديدة بدأت تنمو مع بداية القرن العشرين، وراحت تنظر إلى تاريخ مصر القديم منذ العصر الفرعوني. وفي تلك الفترة، رفض الباحث أحمد لطفي السيد - الذي صار مديراً لأول جامعة مصرية في 1925 - اعتبار مصر جزءاً من العالم العربي أو العالم الإسلامي. وأصر لطفي السيد على اعتبار مصر أمة مستقلة يعود تاريخها إلى آلاف السنين منذ العصر الفرعوني. إلا أن هذه المحاولة لاستعادة الذاكرة التاريخية للمصريين لم تدم طويلاً، وجاءت نهايتها نتيجة لتطور الوضع السياسي في منطقة الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية. فقد تغير الموقف بعد صدور قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1947م بتقسيم أرض فلسطين إلى دولتين، دولة عربية ودولة يهودية، عند ذلك رفضت الجامعة العربية - التي كانت قد تكونت بعد الحرب - قرار التقسيم، وقررت إرسال جيوشها النظامية إلى فلسطين بهدف منع إقامة دولة إسرائيل.
هزمت جيوش الدول العربية السبع في حرب 1948م، واضطرت الحكومات إلى القبول بوقف القتال والهدنة. وكان لهذه الهزيمة في حرب فلسطين أثراً كبيراً على المسيرة السياسية في مصر، بل وفي كل بلدان الشرق الأوسط. قامت حركة الضباط الأحرار في 23 يوليو 1952، بقيادة البكباشي جمال عبد الناصر. ورغم أن جمال عبد الناصر كان يعتمد في البداية على سياسة قومية مصرية، فإنه سرعان ما غير سياسته اعتماداً علي فكرة القومية العربية. وتعتمد فكرة القومية العربية على النتاج الحضاري المشترك، وعلى التاريخ المشترك للبلدان العربية إلى جانب وحدة اللغة والثقافة. ونتيجة لهذه القومية المشتركة، جاء شعار الوحدة العربية للمطالبة بتكوين كيان سياسي عربي واحد، يمتد من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي. وفي سنة 1958م قام عبد الناصر بتغيير اسم "مصر" التاريخي، واستبداله باسم "الجمهورية العربية المتحدة"، عندما قامت الوحدة بين مصر وسوريا. وهكذا اختفى اسم مصر - الوحيد من بين البلدان الذي ورد في كل من القرآن والتوراة والإنجيل - من القاموس السياسي، إلى أن أعاده الرئيس السادات في 1971م.
أدى صعود فكرة القومية العربية في الفكر السياسي بعد ثورة يوليو إلى تغيير مسيرة مصر الحديثة. فبدلاً من استمرار العمل من أجل استعادة الهوية المصرية المفقودة، أحدثت سياسة عبد الناصر المعتمدة على فكرة الوحدة العربية ارتباكاً، خصوصاً بعد أن واجهها فيصل ملك السعودية بفكرة الوحدة الإسلامية. وهكذا واجهت فكرة البعث القومي المصري نهاية مفاجئة.
عندما توقف الباحثون المصريون عن محاولة العثور على جذور التاريخ الماضي لبلادهم، صارت معرفتهم بهذا التاريخ تعتمد كلية على المصادر الأوروبية. صحيح أن الأمم التي تتحدث العربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لديها مصالح سياسية واقتصادية مشتركة، كما أنها تشترك في العديد من العناصر الثقافية. صحيح كذلك أن هذه الشعوب، لو أنها تعاونت سوياً لتكوين نوع من الجبهات الموحدة تشبه الوحدة الأوروبية، فسوف يكون لديها فرصة أفضل لتحسين مصالح كل بلد على حدة. ومع هذا فإن هذه الشعوب - تاريخياً - لا تمثل أمة عربية واحدة. وبينما كانت أول أمة عربية عرفناها في التاريخ هي تلك التي كونها النبي محمد بعد هجرته إلى المدينة المنورة في بداية القرن السابع للميلاد، فإن جذور الأمة المصرية تعود إلى حوالي أربعة آلاف سنة قبل هذا التاريخ. وعندما اعتبر الباحثون المصريون أنفسهم عرباً، أصبح عليهم النظر إلى التاريخ المصري القديم باعتباره جزءاً من الجاهلية قبل الإسلام لا تستحق دراسته.
تولى الباحثون من ثلاث دول أوروبية - فرنسا وإنجلترا وألمانيا - مهمة كتابة تاريخ العالم، بما في ذلك مصر، خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. في ذلك الوقت كان التاريخ القديم يعتبر إلى حد كبير، جزءاً تابعاً للأدب الكلاسيكي والدراسات التوراتية، وعلى هذا صار من اختصاص الباحثين الكلاسيكيين المتخصصين في الدراسات اليونانية والرومانية، وفي خلال القرنين 18 و 19 تولى هؤلاء الباحثون، ليس فقط تحديد تتابع الأحداث (chronology) في التاريخ القديم، بل إنهم هم الذين تولوا تحديد برامج التاريخ التي تدرس في الجامعات وكتابة موسوعات الإنسيكلوبيديا.
نقطتان رئيسيتان وردتا في تحديد التاريخ المصري القديم - كما سجله الكلاسيكيون - تسببا في عدم فهم المصريين لتاريخهم القديم بشكل صحيح: إصرارهم على أن مصر لم تعتنق المسيحية قبل فترة الحكم البيزنطي، وادعاؤهم بأن مدينة الإسكندرية لم تكن مصرية بل يونانية. نتج عن هذا غياب الدراسات القبطية عن المدارس والمعاهد المصرية، كما رفض المصريون ثقافة الإسكندرية - قمة ما وصلت إليه الحضارة المصرية الفرعونية - باعتبارها ثقافة أجنبية دخيلة. ولما كانت النظم الدراسية المصرية الحديثة تتبع النظم الأوروبية التي تشكلت خلال عصر التنوير في القرن التاسع عشر، وافق الباحثون المصريون على كل ما تعلموه عن أساتذتهم الغربيين دون نقاش، حتى فيما يتعلق بتاريخ بلادهم، ولأن علم المصريات لم يكن قد تطور بعد في تلك الحقبة، حيث صار الآن فرعاً خاصاً من دراسة التاريخ، فقد تولى الكلاسيكيون كتابة تاريخ الفراعنة.
الآن بعد أن أصبحت دراسة التاريخ تعتمد على وسائل التكنولوجيا والعلم الحديث في دراسة أحداث الماضي، وعندما استطاعت مجارف رجال الآثار الكشف عن الآلاف من البقايا والكتابات القديمة، حان الوقت كي نعيد فحص تاريخنا القديم لنضعه على أرض أكثر صلابة. وفي اعتقادي أن دراسة تاريخنا القديم هى الخطوة الأولى لاستعادة ذاكرتنا المفقودة، وإدراك هويتنا الحقيقية وفتح الطريق للبحث الحضاري الذي طال انتظاره.