أنت هنا

قراءة كتاب الحقيبة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الحقيبة

الحقيبة

كتاب " الحقيبة " ، تأليف عزة آغا ملك ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 3

إلى المتخفي خلف ستار الليل الـذي تـرك لـي حـقـيـبـتــه وبـقـي سـرّه مجـهــولاً

القسـم الأوّل

1

كان المطر ينهمر على المدينة ذلك الصّبـاح، أكثر من أيّ وقت مضى، في الأسبوع الأخير من خريف طويل وبارد. لقد مضى أكثر من ربع قرن وطقس أواخر الخريف يعيد نفسه من دون تغيّر يذكر: النسمات (الروائح) المنعشة ذاتها تتردّد مشبعة بأريج الزهر العـابق من بساتين الليمون أو من البيوت (الأنابيق) المواظبة على تقـطيره بنشاط وفق طقوس لها أسرارهـا وعارفوها. هـذه السّنة اختلفت عن سابقاتها من حيث غلوّ تقلّبات الطّقس، ففي العشيّة كان الأولاد يجمعون حبّات البرد المتساقطة على سطـوح البيـوت والسّـيارات وهـذا حـدث غير مألوف بالنسبة إليهـم سابقـاً. حتى بساتين الليمون (البرتقال) المنتشرة بين الأبنية التي كانت تكتسي بحلّة ناصعة من الزهر في مثل هذه الأيام، لم تتفتّـح براعمها بعد وما زالت تحبس أنفاسها المعطّرة للجوّ.
كان بعضهم يعزو قسوة المناخ والتغيّرات غير المعتادة في البيئة إلى التجارب النووية التي تسمّم الهـواء وتفسد الجوّ، أو إلى عمليّات استكشاف الفضاء وإطـلاق الصواريـخ والمركبات الفضائيـّة الـتي تصدم العـناصر الكونيـّة حولنـا، والتي برأيهـم يجـب ألّا تـُمسّ لأنّـها تحمـي كوكبنا. ورأى آخرون أقلّ تمسّكاً بمنطق ديكارت العقلاني وأكثر تصديقاً للخرافات، أنّ في الأمر عقاباً للبشر لتماديهم في غـيّهم: عـناصر الطبيعة تنتقـم، يؤكـّّد هؤلاء وهم يقـرعون صدورهـم. لا شكّ أنّ هذا الخلل الفجائي في مناخ بلادنا ذات الفصول الأربعـة المنتظمة تعبـير عن غضب إلهي بعد أن فقد البشر إيمانهم وضربوا بالشرائع والأديان عرض الحائط. لذلك لا يستغرب هؤلاء "الغيارى" هذه الاضطرابات في الطبيعـة. بالعكس هم يرون ضرورة تدخّـل الغضب الإلهي لتأديب البشر ووضع حدّ لفسادهم وعنفهم وشرورهم.
أغرقت الأمطار الشوارع بسرعة تلك الليلة فغمرت الطرق مكوّنة سيولاً هنا وهناك، وجرفت في ما جرفت أكوام النفايات الفـائضة عن المستوعبـات الموزّعة في بعـض الأرصفـة. كذلـك المجارير المكشوفة بعد فقدان أو سرقة أغطيتها المعدنية بد ت فاغرة أفواهها تتقيّأ المياه المبتذلة مثل مريض في حالة غثيان. كما تعطّل العديد من السيـّارات بصورة فجـائية بتأثير السيول التي أطفأت محرّكاتها. كانت دواليب السيارات تجرجر أكياس النفايات البلاستيكية وعبوات المشروب الفارغة المرميّة هنا وهناك، خصوصاً "البيبسي" و"السفن أب".
جـافى النّوم عيني إيـدا تلك الليلة؛ ليس بسبب شدّ ة العـاصفة والبرق والرّعد الذي كان يهـزّ غرفتهـا ويمزّق السكون الذي تنشده فحسب، بل بسبب نقيق الضفادع المتواصل. تحيّرت إيـدا في أمرهذه المخلوقات الغريبة: كيف تجمّعت في فترة وجيزة قبل سقوط المطر وبفعل أي قانون وراثي تكاثرت وتعايشت بانسجام في هذه البقعة الهامشيّة؟.
كانت فسحة منخفضة من الأرض تقع بين بنايتين بمحاذاة الشارع، لم يغـيّر العمران والتنظيم المدني معالمها بعد. قبل أيام قليلة كانت هذه "البورة" المواجهة لمسكن إيدا جافـّة معشوشبة مزنـّرة بنباتات مستقيمة طويلة الجذوع، معظمها من القصب، تشكل سياجاً طبيعياً. وقد اعتاد أولاد الحـيّ استخدام هذه الأرض كملعب لكـرة القدم في الأيام المشمسة، كمـا شكـّلت ملجـأً للعصافيـر ومقصداً للنحل ومرعى للأبقـار. لكن ما إن يبدأ المطر بالتساقط، تتحوّل إلى مستنقع ويختفي روّادها من مشاة وماشية وذوات الأجنحة خوفاً من الغوص في وحولها. وسرعان ما تزدحم البركة المتكوّنة حديثاً بأعداد كبيرة من الضفادع فتراها في كل مكان؛ فوق الماء وتحته وعلى الضفاف، تقفز وتسبح بخفة مع أفواج "البلاعيط" فتملأ المكان نقيقاً، منفرداً حيناً وجماعياً متناغماً أحيانـاً أخرى؛ لكن لا يحلو لها النقيق إلّا في هدأة الليل.
هذا النقيق المتواصل منع إيدا من النوم. كان يتردّد رتيباً منتظمـاً يملأ الجـوّ الرطب كأنّـه نشيد جوقة يقودها مايسترو واحد؛ ولم يتوقف هذا الإنشاد إلّا مع طلوع الشمس.
لم تستطع إيدا تجاهل هذه الأصوات فبقيت تتقلّب في فراشها إلى أن قطع نومها أخيراً زمّور وقح لسيّارة مبكـّرة في الجوار. نهضت من سريرها عند الفجر، وكانت قد وصلت من سفرهـا قبل سويعات قليلة. كانت تشعر بتعب عميق في كلّ أوصالها. لم يكن تعبها بسبب السفر الذي كان قصيراً ومريحاً إجمالاً، بقدر ما هو نتيجة للانزعاج والضيق اللذين يتملكّهانها كـلّ مرّة تعود فيها إلى البلد. كان الأمر على هذه الصّورة في نهاية كلّ سفرة: حالة إحباط ومزيج من مشاعر اليأس والقرف. ربّما لأنّهـا تعرف ما ينتظرها هنا في هذه المدينة التي كانت تحبّ، وفي هـذا البلد المنكـوب الذي دمّرته حرب طويلة مستوردة ومعاناة ما بعد الحرب التي هي أدهى وأمـرّ.
نعم كانت تعلم مسبقاً ما ينتظرها هنـا: كان عليها عند وصولها أن تكافح وأن تسبح عكس التيّار لتأمين حاجاتها الأوّليّة ولترتيب أمور الحياة اليوميّة التي كانت رغم تفاهتها، تشكّل عبئاً ثـقيلاً ومشكلات متلاحقة تحرق الأعصاب وتستنزف الكثير من الوقت والمـال. كان عليها تأمين وسيلة إنارة بديـلة من الكهرباء - كهرباء الدّولـة كما يسمّونها لتمييزهـا من المصادر الخاصّة للطـّاقـة -، وكان إمدادها لا يزيد على خمس أو ستّ ساعات يوميّاً. كان عليها أيضاًً إعادة خطّ الهاتف المقطوع أو الذي استولى عليه أحد "القبضايات". وعليها أيضاًً دفع الرّسوم والفواتير المتراكمة التي فرضتها دولـة تحـاول الوقوف على قدميها وخصخصة الخدمات العامّـة الباهظـة التكاليف. كانت الضرائب المتزايدة تتجاوز بشكل واضح الأجور والمداخيل. وإذا كان المواطن الصّالح -الآدمي كما يسمّونه- عرضة للتعدّيـات والإذلال أثنـاء الحرب البشعـة، فلا شيء بعد الحرب كما يبدو، سيعيد إليه قيمتـه الإنسانيـّة ويعيد تأهيـله كمواطـن. لا لم يعد هذا البـلد هو نفسه الذي عرفتـه "أيام زمان"، وهـي تتذكـّره الآن بمرارة وتحسّر. لم تعد المدينة مدينتها التي كانت. ولوهلة بدا لها أنّها صارت غريبة عن البلد وهو غريب عنهـا.
أحياناً كثيرة كانت تشعر أنّ المدينة ضاقت عليهـا، فتختار الرّحيـل. كان السّفر بمثابة حـلّ ولـو موقـّت؛ فهو يعني الهروب والانفلات من الواقع. هذه "السيـاحة" التي كانت تقوم بها كلّ شهرين أو ثلاثة إلى أيّ مكان يسهّل لها العيش بشكل طبيعي ويساعدها على النسيان أي على أن تنفي من وعيها حقيقة أصبحت مرّة وثقيـلة الوطء أكثر فأكثـر. لكن الهروب لفترة محدّدة من مكـان أو من وضع ما يعني أيضاًً العودة إلى هذا المكان أو الوضع المكروه... أي إلى نقطة الانطلاق. كانت أمّهـا تردّد على مسمعيها القـول أنّ أهل هذا البلـد لا يجب أن يسافـروا أبـداً لأنّهم بذلك يخاطرون باكتشاف حقائـق أخـرى تجعل حقيقتهم محزنة ومحبطة أكـثر ممـّا هي عليه. فكـّرت إيدا في هـذه اللحظة أنّ أمّها كانت محقـّة تماماً.

الصفحات