كتاب " الحقيبة " ، تأليف عزة آغا ملك ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب الحقيبة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

الحقيبة
2
إنقطع المطر الغزير فجأة وظهرت حزمة أشعـّة ذهبية من كوّة فتحت في الغيوم الدكناء. شعرت إيدا بانشراح لا يوصف لهذا المنظر، وكأنّ هذا النور بدأ يُذيب الجليد عن قلبها. شعرت أنّها أقلّ تشتّتاً ممـّا كانت عليه وبدأت تستعيد صفاء ذهنها.
تأكّدت من إغلاق بابها وهمـّت بنزول الدّرج. كان الناطور في مدخل البناية مستلقياً على كرسي من القشّ عليه مسند صغير. وإذ رآها وقف فجأة:
- صباح الخير سيّدة إيدا! هل عرفتِ...
قاطعته إيدا بأن مدّت إليه بضع ورقات ماليّة زرقاء، وإذ تذكرت مطوّلاته الكلامية عندما استقبلها صباحاً، أجابته بهدوء:
- صباح الخير يا أديب، كيف حال الصغير؟ هل تحسّنت صحته؟ ألقت هذه المجاملة مبتعدة بسرعة بحيث سمعت بصعوبة جواب الناطور:
- الصغير ما زال موجوعاً. تركته عند أمـّي في سورية؛ هي تعنى به وأنا أرسل إليها باستمرار المال الذي أكسبه هنا. حفظ الله سكان البناية؛ إنـّهم يغمرونني بكرمهم... أضاف بلهجة استعطاف.
وإذ لاحظ اختفاءها السريع هرول نحوها مضيفاً:
- لكن... كان بإمكانك استخدام المصعد سيّدتي! الكهرباء متوافرة... منذ الصباح...
كانت إيدا متوجّهة نحو سيارتها عندما لاحظت أديب بجانبها وسمعته يتابع كلامه مغيّراً الحديث:
- إنّ جرحى يوم الأحد الماضي، سيّدتي...
وإذ لاحظ عدم اهتمامها بحديثه بعكس ما كان ينتظر، أنهى قائلاًً:
- لقد ماتوا كلّهم!
لم تستطع إيدا أن تحبس صرخة إشفاق:
- كلّهم؟
ارتسمت على وجه الرجل علامة ارتياح لنجاحه في إخراج الدكتورة من صمتها، فقال بتردّد:
- تقريباً... ليس كلّهم تماماً... نحو عشرة منهم... نعم عشرة.
لم تسمع كلماته الأخيرة؛ فقد ابتعدت لتقف أمام سيارتها.
* *
كانت التويوتا البيضاء واقفة بجانب الرصيف وعلى إيدا أن تستدير إلى الجهة الأخرى من السيارة لتدخلها ثم تنتقل إلى جهة السائق، وذلك لسببين: أوّلهما أنّ حافة الرصيف كانت عالية بحيث تعيق فتح باب السائق. لم تجد سبباً لهذا الارتفاع المزعج للرصيف إلى أن أخبرها الناطور أن هذا الخطأ كان مقصوداً؛ فرئيس البلديـّة أوعز بذلك نكاية بمالك البناية الذي كان خصمه السياسي، ولم يجد وسيلة أخرى للإضرار به! أما السبب الآخر فكان وجود حفرة فاغرة من مخلّفات القصف لم تردمها مصلحة صيانة الطرق كما يجب؛ فعند امتلائها بمياه الأمطار تصبح فخّـاً خفيّـاً، إذ يمكن أن يغطس المارّة فيها حتى الكاحل. كما يبرز في وسطها رأس جسم معدني منغرز في الأرض، هو من بقايا قذيفة قديمة، وكثيراًً ما تسببت بانفجار إطارات السيارات التي تمرّ بها.
- انتبهي مدام إيدا! الحفرة!
ظهر الناطور مجدّداً، ممسكاً بقبضتيه أطراف أكياس من البلاستيك مثقلة بالنفايات، متوجهاً نحو مستوعبات القمامة المسودّة اللون. كان يراقب المرأة وهي تصعد إلى السيـّارة من باب الراكب الأمامي وتدمدم منزعجة. وصلـت إلى المقـود وقبضت على بدّالـة السرعة بعـد إرخـاء مكبـح اليد.
كانت تقود ببطء في الطريق المؤدّية إلى الكلـّية، متجنّبة السائقين المتهوّرين الذين كانوا يتجاوزونها بسرعة جنونية. بدا لها الطريق نظيفاً بعد أن غسلته الأمطار، وكانت بقع المياه هنا وهناك تظهر أمامها كالسراب وتعكس زرقة سماء صافية كانت قبل أقل من ربع ساعة مسرحاً لعروض البرق والرّعد وزخّـات المطر المجنون. عادت الشمس تغمر المدينة بوشاح ذهبيّ ساحر.
إنّ هذا الطقس المميّز سبب إضافي كافٍ لاختيار البقاء في هذا البلد. والنزوح الذي اشتدّ خلال الحرب أكثر من أيّ وقت مضى، بدأ يأخذ اتجاهاً معاكساً؛ فكثير من المهاجرين بدأوا يعودون الآن إلى بلدهم، بلد الشمس والدفء.
توقّفت أمام البوّابة الحديدية لمدخل البناية الرئيسي بانتظار أن يفتح لها لتركن سيارتها في الملعب الكبير. على يمين المدخل أقيمت تخشيبة عسكرية للحرس. أخذت تنظر بسخرية إلى اللوحات الإعلانية والصور الدّعائـية وبعضهـا ممزّق باهت، ألصق عـلى جـدران الكلـّية في السنة الماضية.
كانت الصور لنوّاب منتخبين أو لمرشحين سقطوا في الانتخابات الأخيرة وهي الأولى بعد حرب دامت ستّ عشرة سنة. كان هناك صور أحدث عهداً لمطربين من الدرجة الثانية والثالثة؛ بدا بعضهم بشعر أشعث على طريقة البيتلز الرائجة. وجوه وأسماء... أسماء كثيرة مرصوفة ومتداخلة وصور متراكبة بعضها فوق بعض لخليط متنافر من الفنّانين وأشباه الفنّانين والسياسيين والمرشحين المغامرين والمغمورين تغطـّي معظم الجدران. لم يكن يجمع بين هذه الوجوه سوى الابتسامة الاستعراضية التي اجتهد أصحابها في جعلها جذّابة آسرة. على جدار أعلى، ألصقت صور لآخر دفعة من شهداء الجنوب إلى جانب صورة مميّزة تكرّر عرضها بشكل لافت على عمودي الجدار البارزين. ارتسمت على وجه إيدا ابتسامة ساخرة إزاء هذا المشهد الدعائي. قرأت شعاراً مكتوباً في أسفل الصورة يؤكـّد أنّ هذا النائب القادم سيطالب بحقوق الجامعيين ويناضل لتأمينها. استوقف نظرها وجه صاحب الصورة؛ بدا جميلاً بشكل عام. كان في وجهه سمة لفتت انتباهها...وبعد لحظة تركيز وتأمل، اكتشفت أنّ جاذبية الوجه تكمن في غمازتيه المرسومتين بإتقان على جانبي الفم واللتين تضاعفان تأثير الابتسامة وتضفيان على وجهه إشراقة مميّزة. هذه الملامح في الصورة ذكّرتها بوجه تعرفه تماماً: المحامي بغمازتيه البارزتين اللتين كانتا نقطة ضعفها.
قطع تأملات إيدا اقتراب رجل بزيّ عسكري نحوها. عندما وقف الخفير أمام سيارتها كانت البوّابة لا تزال موصدة. طلب إليها فتح صندوق سيارتها أولاً ثمّ رفع غطاء المحرّك.
- تفتيش أمنيّ، قال الرجل باقتضاب.
هل عليها النزول من السيارة وهي ترتدي معطفها السومون، وبعد كلّ هذه العناية بأظفارها التي طلتها بالأحمر هذا الصباح... أثار هذا الطلب ثائرتها فأجابت بنبرة حادّة:
- إنّ وظيفتي هي التدريس، لا فتح وإغلاق السيـّارات. هذا شغلك أنت يا سيّد!
- عليك أن تقومي بذلك بنفسك، سيّـدتي! إنّـها التعليمات، أجـاب الحـارس بلهجـة جافـة وجازمة.
إرتبكت إيدا واكتفت بإطفاء المحرّك والإشاحة بوجهها بعيداًً. أدرك الجنديّ أن طلبه لن ينفـّذ فأضاف مبرّراً:
- ذلك أنّ الوضع الأمني يتدهور منذ بعض الوقت، ورئيسي المسؤول...
لم تدعه يكمل جملته:
- قل لرئيسك الذي أعطاك هذه التعليمات أن ليس من واجبات الأستاذ، والأستاذة بشكل خاص، أن تقوم بدور الميكانيكي! وأضافت بحدّة: كفى...هذه التصرّفات المعيبة وهذا الإذلال.
ولوهلة، بدا لها أنّ الجنديّ لن يتزحزح عن موقفه، ففكّرت بأسلوب أكثر إقناعاً: قطبت جبينها وسألت بلهجة حازمة كمن يريد حسم الموضوع:
- لكن، ما اسم رئيسك؟ من الضابط آمر الموقع؟
ظنّ الجنديّ أنـّه بحضرة سيّدة نافذة فتحرّك على مضض. رأته إيدا يقترب ببطء من غطاء المحرّك، وكان مفتوحاً، ثمّ يستدير نحو الصندوق الخلفيّ فيخبط غطاءه بعنف مبتعداً بسرعة. تولّى شخص مدني كان هناك زحزحة البوّابة الضخمة وفتحها أمام السيّـارة فدخلت.