كتاب " الحقيبة " ، تأليف عزة آغا ملك ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب الحقيبة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

الحقيبة
- الرائد ليس في البيت، قال باقتضاب ونبرة سلطويّة زميله المربوع القامة.
تدخّل آخر سائلاً:
- ما الموضوع؟
بدت المرأة منهكة للغاية، وإذ فوجئت بلامبالاة الحرس وابتسامتهم التي لا تخلو من استخفاف وسخرية، ركّزت على خليل وقالت بلهجة تحذير:
- لا تأخذوا المسألة بهذه الخفّة يا رجال، لقد وجدت حقيبة مريبة في سيارتي هذا الصباح... "رُ- بّ- ما" كانت مفخّخة. يجب أن أرى رئيسكم وأخبره بالأمر. قالت هذا مؤكّدة على عبارة ربّما وهي تنطقها مقطعاً مقطعاً.
- رئيسي "رُ- بّ- ما" هو الآن في بيته، قال الثاني وهو يقطّع الكلمة بالطريقة ذاتها.
تدخّل خليل بقوله:
- لكنّه يسكن في الطابق العاشر، والمصعد متوقف لانقطاع التيار كذلك مولّد البناية معطّل منذ الصباح...حتى الإنترفون... ثمّ أضاف مطيّباً خاطرها مخاطباً إياها بصفتها أستاذة جامعية:
- لا عليك يا دكتورة، سأبلّغه حالاً.
واختفى الجنديّ في ظلمة الدرج وهو يقفز درجاته اثنتين اثنتين. عاد بعد بضع دقائق متدحرجاً بسرعة كما كان يدلّ وقع خطاه ولهاثه المتسارع. وقف منتصباً بحكم عادته العسكريّة وقال للسيّدة بلهجة مطمئنة، والسرور يشعّ من عينيه الصغيرتين:
- الرائد يقول إنّه سيهتمّ بالموضوع دون إبطاء. سيرسل دوريّة من ستة عناصر مع ملازم. ما عليك سوى العودة إلى منزلك والانتظار... اطمئنّي سيّدتي، أضاف مؤكّداً.
لكنّ إيدا لم تعد إلى بيتها "مباشرة"، كما طلب منها، بل توجّهت إلى بيت "بيبـا"، الصديقة التي لم تفلح في الاتصال بها هاتفياً؛ فقد شعرت برغبة بأن تخبرها كلّ شيء عن الحادث، وبأن تكون إلى جانبها لحظة وصول الدوريّة. أطلقت إيدا زمّور سيّارتها بضع مرّات فظهر رأس امرأة على شرفة الطابق الأوّل. اختفت المرأة بعد أن أشارت بيدها ونزلت بسرعة.
صعدت الصديقة في سيّارة إيدا وحاولت بعينين متفحّصتين أن تحزر ما كان يجري من تعابير وجه الدكتورة وتغيّر لونه. فهمت خطورة الأمر وغرابة "الحدث"، الذي لم ينته تماماً.
- الحـدث؟ صرخت صديقتها. إنّه حادث بالأحرى و... خطير برأيي. أوقفيني هنا. وحالاً...
لكنّ إيدا كانت قد وصلت. لقد روت القـصّة ذاتها للمرّة الثالثة، وكانت تبدأها بالكلمات نفسها وتحاول التقليل من أهمّية الأمر. لقد أمضت أكثر من نصف نهار تدور حول الموضوع وتحاول لاشعوريّاً إخفاء جوهر المشكلة، كما لو أنّ وجود الصديقة التي تثق بها كان يخفّف من هواجسها، بحيث كانت تروي لها القصّة بشيء من المزاح والمرح. هذا الاستخفاف والظهور بمظهر اللامبالاة، أثار بيبا التي بدت منفعلة وقالت بصوت مرتجف:
- حدث الأمر في سيارتك؟ أعني وجدت الحقيبة في هذه السيّارة بالذات؟
- لقد أكّدت لك ذلك مراراً. نعم، قالت إيدا بشيء من السخرية.
صرخت بيبا صرخة ذعر أشبه بصرخة بوليت قبل ساعات. كان خوفها ظاهراً بحيث لم تعرف كيف تهرب من السيّارة إذ أدركت أنّ المسألة جدّية، بل خطرة. انطلقت من السيّارة كالسّهم والتقطت في طريقها كيساً من البلاستك كان الهواء يتلاعب به، فوضعته بحركة لاشعورية على رأسها لحماية شعرها المصفّف حديثاً ودمدمت بعصبيّة: "تبّاً! لقد خرجت تواً من صالون المزيّن!". ارتفع صوت الأستاذة من داخل السيّارة مهدّئة من روعها:
- اطمئنّي يا صديقتي العزيزة؛ الحقيبة بعيدة، بجانب المستنقع.
عند سماعها هذه الكلمات، ركضت "الصديقة العزيزة" في الاتجاه المعاكس، وصاحت بانفعال:
- لكنّنا أمام المستنقع تماماً! استر يا رب!
في هذه اللحظة بالذات، تقدّم الجنود بخوذهم باتجاه السيّدتين شاهرين رشّاشاتهم. كانت الصديقة ماتزال تبتعد خائفة إلى أن وصلت إلى باحة مخزن، تاركة إيدا وحـدها في السيّارة ومتمتمة نحوها: "يا لبرودة أعصابك!"
وجدت إيدا نفسها محاطة بمجموعة من الأحذية العسكرية تدبّ من حولها. لم تعد ترى في الظلمة سوى لمعان الخوذ المعدنية الباهت. بينما وقفت صديقتها بعيداًً، مسمّرة في مكانها تحت شرفة المخزن، غارقة في سواد الليل. صاحت من مخبئها نحو الجنود بصوت متهدّج:
- يجب تفتيش صندوق السيارة... وكذلك تحت غطاء المحرّك!
وإذ لاحظت أنّ أحداً لم يسمعها، صرخت بصوت أقوى، متراجعة بضع خطوات إلى الوراء:
- هيّا يا عسكر، فتّشوا، ماذا تنتظرون؟
لكنّ صوتها ضاع في الظلمة وسيل المطر المنهمر.
كانت إيدا ما تزال قابعة في السيّارة، يغمرها شعور بالطمأنينة؛ فالشرّ المتمثل بالحقيبة المشبوهة أصبح بعيداًً، ولم يعد هناك أيّ خطر. كانت قدرتها على التفكير والعمل معلّقة في هذه اللحظة. أحسّت كأنّها تسبح في الفراغ، ولم تعد قادرة على الهبوط إلى الواقع للتحقّق ممّا يجري حولها. كانت أنظارها تتنقل بين صديقتها التي بقيت بعيدة والجنود الذين توزّعوا حولها منتظرين الملازم. كان أحدهم واقفاً دون حراك عند مدخل البناية. ألقت نحوه نظرة جانبية متفحصة ولاحظت أنّه كان يستجوب الناطور الذي بدا منحني القمة منكمشاً في ظلّ الحائط.
عادت إيدا لتصحو من ذهولها. كانت بطبيعتها المتفائلة التي ترى الجانب الإيجابي من الأمور أولاً، تريد أن ترى في هذه الحادثة مجرّد حدث عرضيّ لا خطر منه البتّة. لكن، كيف ذلك ومن حولها دوريّة عسكريّة في حالة استنفار؟ كان في أعماقها شعور غامض بالقلق لم تستطع تجاهلـه.
كانت قطرات المطر الضخمة تصدم زجاج سيّارتها فتشوّش المنظر أمامها. كان وجه السماء مضطرباً مظلماً يبعث في نفسها رؤى شبه ملحميّة. كان وقع المطر يختلط بصوت صديقتها المبحوح و كلماتها الآتية من بعيد:
- أيّتها المجنونة! كان عليك أن تستشيري صاحب خبرة في ما يجب عمله في حالة كهذه. ولا تقولي لي إنني أبالغ!...
هذا بالضبط ما كانت إيدا على وشك أن تقوله لها.
فيما كانت الأستاذة تفكّر في ذلك، فتح باب التويوتا فجأة، ودخل رجل بصورة جانبية ليجلس في المقعد الخلفيّ. تبدّدت الأفكار السوداء المتزاحمة التي كانت تحاول إبعادها، ليحلّ محلّها شعور خانق بالارتباك. أحسّت كأنّ أطرافها تجمّدت ولم تعد تخصّها.
تنحنح الرجـل وخلع قبعتـه العسكريّة عن رأسه ونفض كتفيـه المبللتين. زاغت عينـا إيـدا لحظة لتحـطّ نظرها بعد ذلك، لا على وجه هذا الدخيل، بل على خصره حيث كان سلاحه يلمع. كان يصعب تبيّن ملامح ذلك الوجه داخل السيّارة، باستثناء الشاربين ربما. أدارت رأسها إلى الخلف، نحو الرجل "الوقح" إذ سمعت صوتاً يخترق حجاب الظلام:
- هذه أنتِ إذن، عزيزتي إيدا! لم أكن أعلم!
أجفلت لسماعها الصوت؛ لم يكن غريباً عنها تماماً. تابع الرجل:
- أعطاني رئيسي أمر مهمة طارئة، على حدّ قوله. لقد وجدت حقيبة رجل مشتبهاً فيها في سيّارة امرأة، وأضاف أنّ الحقيبة ربّما كانت مفخّخة. لم أتصوّر البتة أن تكون...
صمت الرجل ثم ضحك عابثاً. عندها أوقفت المرأة نظراتها الحائرة وأسندت وجهها إلى متكأ مقعدها وصاحت: "أوه، لا! لقد أخفتني أيّها الملازم!"
رغبت للحظة أن ترتمي بين ذراعيه، لتشعر بالأمان. كانت دقائـق طويلة مخيفة مرّت بها تواً.