أنت هنا

قراءة كتاب الحقيبة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الحقيبة

الحقيبة

كتاب " الحقيبة " ، تأليف عزة آغا ملك ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 8

4

رأت إيدا من نافذتها المطلّة على المستنقع ناطور البناية يضع الحقيبة خلف السياج ويبتعد بسرعة. بدأ المطر يتساقط وئيداً بقطرات كبيرة كانت ترسم على وجه المستنقع تموّجات وتجاعيد بأشكال مختلفة. خيّل لإيدا أنّ كلّ قطرة منهمرة تشبه قذيفة مصغّرة كانت تنفجر وتنثر شظاياها. فجأة ظهرت غيوم ثقيلة عتّمت الأفق وعجّلت هبوط الظلام. عادت جوقة الضفادع الى نقيقها وانشغلت أفكار إيدا بإيجاد مخرج لهذه المشكلة. قرّرت الاتصال بالرّائد آمر المنطقة.
رفعت سمّاعة الهاتف فكان الخطّ صامتاً؛ لا إشارة صوتية. في هذه اللحظة الحرجة؟ لماذا؟ كأن المصائب لا تأتي إلّامجتمعة! أسرعت نحو بيت الجيران. استقبلها جوجو وبدا السرور على محيّـاه لرؤيتها. هذا المراهق ابن الثمانية عشر عاماً، كان دوماًً يكنّ احتراماً للدكتورة. لقد شهدت مولده وترعرعه في المبنى ذاته الذي تسكن فيه، وكثيراًً ما ساعدته في واجباته المدرسية. قادها الجار الشابّ إلى غرفته ووضع بتصرّفها هاتفاً مزوّداً بنظام لإعادة طلب الرقم تلقائياً في حال انشغال الخطّ. هذا يخفّف توتر الأعصاب قليلاً؛ ما عليك سوى الضغط على "هذا الزرّ"، قال لها الشابّ بنظرة ملؤها الإعجاب، وأضاف: "وإذا لم يفتح الخطّ، ما عليك سوى الذهاب بنفسك حيث تريدين الاتصال...؛ أنا سأوصلك؛ سيكون الأمر أسهل! ".
بهذا المنطق البسيط، كان جوجو يحاول إيجاد أسهل الحلول الممكنة. إنّه جيل الحرب، على أيّ حال، كما لاحظت. لم يتسنّ له أن يعيش حياة طبيعيّة سهلة، كتلك التي عرفتها هي قبل الحرب. هذه الفكرة أثارت نقمتها على الأوضاع الاجتماعية التي تزداد تردّياً؛ وعلى أحوال ما بعد الحرب التي جعلت الناس يترحّمون على أيام الحرب؛ فبدلاً من تأمين الخدمات العامّة للمواطنين، جعلت خدمات "السوق السوداء"، أو بالأحرى عمّمت استعباد الناس. فالفرد لم يعد بمقدوره تأمين حاجاته ومطالبه المشروعة بإمكاناته الخاصّة، ولم يعد أمامه خيار سوى التزلّف لأهل السلطة والزحف على أعتاب النافذين، أو دفع أضعاف كلفة الخدمات التي يطلبها.
طلبت إيدا رقم إحدى صديقاتها، بيبا، التي كان لديها أرقام هواتف معظم الشخصيّات البارزة في المدينة. لم يكن لخدمة الاستعلامات وجود في مركز الهاتف، كما لم يكن هناك دليل للهاتف بتصرّف الجمهور.
لم تكن تعلم إذا كان هاتف بيبا معطّلاً كهاتفها، أم أنّها كانت خارج البيت؛ كان يرنّ دون جواب. تمتمت بعض الشتائم لصديقتها الغائبة وللمسؤولين الذين لم يصلحوا شيئاًً في البلد، وللحياة في البلد!
كانت مرهقة وفي غاية التوتّر. اتصلت بأخيها، وأخذت منه رقم الضابط دون أن تعطي سبباً لذلك. طلبت الرقم وأعادت الطلب، ثمّ شغّلت نظام الترقيم التلقائي. لا شيء ولا أحد. لا وجود لأيّ ضابط خدمة من المكلّفين بالإجابة على المكالمات المتعلّقة بالأمن. "حتّى خطّ الرائد؟ يا للسخرية!"
رآها جوجو تخرج دون أن تتفوّه بكلمة. كانت تريد أن تأخذ سيّارتها وتذهب شخصيّاً لمقابلة الرائد الذي كان هاتفه معطّلاً. بينما كانت تنزل الدرج بسرعة، التقت زوجة الحلاق النسائي، جارتها في الطابق الخامس. دهشت "سالي" لرؤيتها الأستاذة مسرعة على غير عادتها: لم ترها قطّ من قبل في هذه الحالة من الاضطراب. وأمام نظرات الجارة المتسائلة، روت إيدا بإيجاز ما حصل معها دون أن تعطي أهمّـية لذلك. لم تكن ترغب أن تجعل من "حدث بسيط" أمراً خطيراً؛ إنّها مجرّد حقيبة منسيّة، والمسألة لا تحتمل تأويلات سيّئة. قالت ذلك متظاهرة باللامبالاة، لكنّها صعقت وامتقع لونها ولم تستطع إخفاء اضطرابها حين سمعت تلميحات جارتها التي حاولت إفهامها أنّ المسألة قد لا تكون بهذه البساطة. روت الجارة تفاصيل حادث مماثل وقع أثناء سفر الأستاذة: فالبقّال حسن عند زاوية الشارع، رأى سيارة تمرّ بسرعة جنونيّة رُميت من داخلها حقيبة، صدمت واجهة المحلّ وتسبّبت بكسر زجاجها. التقطها البقّال ورأى من بعيد زوج سالي يمرّ في المكان. استوقفه وأراه الحقيبة. اقترح هذا طلب خبير بعد أن حاول عبثاً فتحها.
ذلك أنّ نظام الفتح والغلق فيها استعصى عليه. بعد أن فتحها الخبير العسكري بالقوّة بانت بداخلها رزم من الدولارات الأميركية فضلاً عن دفاتر حسابات مصرفية وشيكات. ولمّا كان اسم صاحبها عليها، فقد استدعي لتسلّم حقيبته من "الرائد". أنهت سالي روايتها مؤكّدة أنّ اللصوص، بحسب رأي الخبير، لم يتمكّنوا من تشغيل القفل المرمّز وفتح الحقيبة، فقد كانوا كما يبدو مبتدئين، فعمدوا للتخلّص من هذا الحمل الفاضح برميه بعيداًً.
نفد صبر إيدا وزاد توترها وهي تسمع قصّة جارتها، مع أنّ الحقيبة التي تحدّثت عنها غير خطرة كحقيبتها، (الحقائب الخفيفة إجمالاً يحتمل أن تحتوي مالاً، وهذا يعرفه اللصوص بالتأكيد).
ابتعدت بصورة لاشعورية ناسية محدّثتها. في أسفل الدّرج التقت مجدّداً أديب الذي وجّه إليها نظرة عتاب، كأنّما لتذكيرها بالخدمة التي أسداها إليها، وطمأنها بقوله: "نحن الآن بمنأى عن أيّ خطر، مدام إيدا. الحقيبة ترقد بين أغمارالقصب. إذا كان هناك من خطر... سيكون على الضّفا..."
لم تسمع إيدا باقي كلامه، إذ كانت قد غادرت؛ صعدت إلى سيارتها وأدارت وجهها كي لا تسمع المزيد من الثرثرة تفيض من فيه المعوجّ وقد أوشك أن يرسم ابتسامة بلهاء.
كانت تقود سيّارتها تحت المطر، في الشارع العريض المظلم، باتجاه بيت الرّائد، كأنّما على غير هدى. وكانت المياه المتجمّعة في الحفر تتطاير تحت العجلات وتلطّخ زجاج سيّارتها. إنعطفت إلى اليسار ودخلت في شارع فرعيّ يلفّه السواد. توقفت أخيراً أمام المبنى ذي الطوابق العشرة الذي كانت تبحث عنه. نزلت من السيّارة تحت وابل من المطر فوجدت نفسها عند مدخل البناية، وكان مضاء بمصباح يعمل بالغاز. كان هناك أربعة من الحرس المولجين بحماية المبنى حيث يسكن الرائد. أجفل الرّجال لرؤيتهم امرأة تظهر فجأة من الظلمة الحالكة في الخارج وتتقدّم نحوهم. عرفت إيدا بين الموجودين الحارس المدعو خليل، الذي كان مرافقاً سابقاً لصهرها العقيد الذي استقال من الجيش وهاجر مع أسرته إلى أميركا أثناء الحرب. فُوجىء خليل برؤيتها وسألها عمّن تبحث هنا في هذا الوقت المتأخر.
- أريد رئيسك ردّت على الفور.

الصفحات