كتاب " الحقيبة " ، تأليف عزة آغا ملك ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب الحقيبة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

الحقيبة
لم تكن جوقـة الضفـادع قد توقفت عن النقيـق. كانت إيـدا سابقـاً تحبّ هذه النغمـات الصارخة الخارجة من الميـاه لتملأ الجـوّ بصخبهـا، متقـاطعة متداخـلة أو متمازجـة بحيث يصعب تمييزها. كانت تجدهـا مبعثـاً للوحي والحنين كأنّهـا آتية من عالـم ومن زمن آخـر. أمّـا الآن فقـد غـدت هـذه البرمائيّات الرباعية السيقان بنظرها لا تطاق، خصوصاً تلك التي كانت تشذّ عن الجوقة بأصوات منفردة نافرة استحوذت على حواس إيدا في ترقّبها اليائس لصمت مستحيل.
بعد نهوضها باكراً على غير عادتها، أمسكت إيدا فنجان قهوتها وتذوقت رشفات صغيرة بشيء من الاستمتاع. كان الهاتف على طاولة صغيرة أمامهـا. رفعت السمـّاعة لتكلّم أمّها التي تستيقـظ قبلها بالتأكـيد. تذكّرت أنّ الخطّ مقطوع فهـزّت رأسها باستيـاء وارتسمت على شفتيهـا ابتسامـة سخرية وقرف: هذا أوّل نصف نهـار ضائع تواجهه. إنّهـا أبسط وسيلة لإذلال الإنسان في هذا البلد. عليها أن تذهـب إلى مكتب سنترال الهاتف لإيداع شكوى، وهي تعلم يقيناً أنّها لن تؤخذ في الاعتبار إلّا إذا كان الموظـّف الذي تعرفه - وتدفع له "إكراميّة"- موجوداً. وإلّا سيكـون عليهـا الانتظار كالآخرين أسابيع أو ربما أشهراً لإعادة خطـّها المقطوع. توتّرت أعصابها لهذه الخاطرة المزعجة وتمنّت لو أنّهـا تعود أدراجها وتسافر إلى بلد يستطيع المرء فيـه أن يدافـع عن حقـوقـه المسلوبة ويطالب بها.
سمعت إيـدا ضجّة أمام مدخل الشقة فقامت لتفتح الباب. كان ناطور البناية هناك يجمع أكياس النفايات الموضوعة في السّهرة. كان يلبس قميصاً خمريّ اللّون من نوع إنترلوك يلازمه كجلده الثاني. ألقى الناطور عليها نظرة من فُوجىء بوجودها، مصحوبة بابتسامة خفيفة تنمّ عن السذاجة والتشكّي.
- صباح الخير سيّدة إيدا، و... الحمد لله على عودتك بالسّلامة! لم أعلم بقدومك، فيوم أمس كـان يوم عطلتي، قال الناطور متلعثماً لكن بحماس.
- صباح الخير يا أديب... كيف الأحوال؟ ردّت باقتضاب وهي تهمّ بإغلاق الباب مجدّداً.
تابع الناطور دون توقّف كأنّما لينقل خبراً لم يعد يقوى على حمله:
- ليست على ما يرام يا سيّدتي، بل هي سيئة حقاً... أوّل أمس وقع انفجار، وأمس وقـع آخـر. حمانا الله من الأشرار. الانفجار الأوّل حدث أمام كنيسة مار مارون والثاني أمام المسجد الكبير... الحصيلة بضعة قتلى وعشرات الجرحـى. كأنّ قوى الشرّ تريـد بأيّ ثمن دفع البلاد مجدّداً إلى حافّة الحرب. قال ذلك بوقار المطـّلع العارف وهو يبتعد ويخفض صوته تدريجيّاً.
عادت إيدا إلى مقعدهـا حاملة فنجان قهوتها الباردة وجلست تتأمـّل من خلال الواجهة الزجاجية لغرفة الجلوس، سمـاء كالحـة تنذر بزخـّات مطر جديدة، ومعها أفـواج جـديدة من الضفـادع. كانت تتساءل عما إذا كانت ظروف الحياة في البلد هي حقاً سبب شعورها بالتعب والضّجر، أم أنّ هناك أسباباً شخصية لا علاقة لها بالبلد، وراء انحراف مزاجها. كانت تشعر نوعاً ما بالفراغ بعد أن تركت الآخـر يرحل؛ أي منذ انفصالهما الذي اعتبرته نهائياً. الانفصـال! أليس ذلك سبباً كافياً للوصول إلى حالتها تلك ولإحساسها بعدم التعلّق بالمكان الذي عاشت فيه ردحاً من الزمن، لأنّ الآخـر لم يعد هناك؟ لم يكن لديها اندفاع للسفر حتى وقت قريب، لأنّ الآخـر كان ما يزال في حياتها، وكان حضوره يعني لها الكثير ويشدّها إليه باستمرار. عقدت حاجبيها إذ تذكّرت أنـّها هي لا هو، تركت أولاً وعجـّلت الانفصال، فعليها الآن أن تتحمّل تبعات موقفها مهما كانت.
كان ذلك قبل أكثر من شهرين، حين حطـّمت باختيارها كلّ شيء ولم تتوقف بعد ذلك عن السفر. كان ارتحالها أوّل الأمر بمثابة هروب من واقع لم تستطع تقبـّله؛ لكنـّها بدأت تستمتع بالسفر أكثر فأكثر: زيارة شقيقتها المقيمة في الولايات المتحدة، والثانية التي تعيش في ألمانيا، ثمّ زيارة أخيها الـذي يعمل في دبي، والآخـر المقيـم في السويد. كـذلك ابنتـاها الطالبتـان في باريس؛ ارتـأت أن تزورهما للاطلاع عن كثب على أوضاعهما المالية والدّراسية. ولم تنسَ ابن أخيها في بلجكا، الذي غادر بلده مثل ابنتيها، هرباً من فظائع حرب لا رحمة فيها. لـم يكن ينقصها بالطبع أماكن ممتعـة للسفر أو أحبـّاء للترحيب بها. لكنّـها كانت تبحث عن وطن آخر لأنها كانت رافضة ما يجري في وطنها وأرض أجـدادها، حيث كان كـلّ شيء يتهـافت ويتهـاوى، من حجـر وبشر وقيـم إنسانيـّة داستهـا أقدام الجهل والتعصّب.
ولئن استسـاغت إيدا البقاء سنوات طويلة في تلك الدّوامة، فقد كان ذلك لأجـله هــو ... وبسبب حضوره الأخـّاذ الذي كان يملأ حياتها، والذي انقطع الآن وأصبح أثراً بعد عين. لكن، لكلّ شيء نهاية، قالت لنفسها، ولا شيء يدوم في هذه الحياة الزائلة. بيد أنـّها تقبلت هذه النهاية دون أسف منذ زمن طويل. إنّـها تبتسم بحنـوّ إذ تتذكّر تلك الأنثى العاشـقة والسريعة التأثـّر التي كانت فـي زمن مضى، والتي كانت تعيش على إيقاع نبضات قلبها وعواطفها. لقد تغيّرت إيدا الأمس وبعدت عن تلك الصورة التي كانت عليها مدفوعة بعوامل وقوى تجهلها. ومع مرور الزمن لن يبقى من تلك الذكريات سوى صور وأحاسيس مبهمـة وباهتـة. ترى، هل تضيع كلّياً كأنـّها لم تكـن؟ هـذه التساؤلات والحالة الشعورية المضطربة أزعجتها فعـلاً وعكـّرت مزاجها. لكن لـمَ العـودة إلى الماضي وحكّ الجرح الملتئم؟ الذي لم يكن جرحاً ربّما، ولا أهميّة له على أيّ حال.
استغرقت إيدا في تأمـّلها بحيث نسيت الضفادع ولم تعد تسمع نقيقها المزعج. لقد أصمـّت أذنيها في هذه اللحظات عن كل ضجيج خارجيّ. لكن ما إن عادت من تأمـّلاتها ودفنت في أعماق وعيها تلك القصـّة التي بدت لها منتهية، حتى انتبهت فجـأة لتلـك الأصوات كمـن يسمع صوت شلّال خافت عن بعد، ثمّ ينفجر هديره في أذنيه عندما يقترب منه. عادت أصوات الضفادع المزعجة تدوّي في رأس إيدا، وأعاد إيقاعها إلى ذهنها صدى صوت بعيد... صوتـه هـو بنبرته الواضحة وعـذوبة ألـفاظه. تذكّرت ما قاله لها عن الضفادع: هـذه الأصوات تثير الحنين في نفسي... لا أعرف لمَ تنتابني هذه المشاعر السوداوية عندما أسمع هذا النقيق... إنّ عدوى هذه المشاعر السوداوية قد نقلها إليها في الواقع، بعد تلك العشرة الطويلة.
إنتفضت إيدا ونظرت إلى ساعة يدها، ثمّ إلى ساعة الحائط الكهربائـيّة الصغيرة: إنّها التاسعة والنصف في هذه الأخيرة، بينما تشير الأولى إلى الثامنة والنصف؛ وقد نسيت أن تضبطها بعد عودتها من السفر. لم تكن متأكـّدة كم أمضت من الوقت مستلقية في مقعدها بين أحلام اليقظة والنوم. لا بدّ أنّـها عاودت النوم لأنّها كانت تحلم أو بالأحرى كانت تحت وطأة كابوس مخيف:
رأت رجلاً طويل القامة لم تستطع تبيـّن ملامحـه؛ كان يضمّها إليه بقوّة دون أن تستطيع حراكـاً ويعضّ رأسها حتى العظم بفكـّيه القويين وهي تصرخ من الألم. خيـّل لها أن لهذا الرجل ذات مشية وحركات الآخـر، صديقها السابق، المحامي الذي أخرجته من حياتها. شعرت كأنّ هذا الكابوس الذي لم يدم أكثر من ثانية، ترك في قمـّة رأسها أثراً موجعاً بل مؤذياً حاولت تحسّسه بيدها. مع ذلك أحسّت أنّ الرعشة التي استولت عليها لحظة الحلم كانت مزيجاً من الألم واللذة. وقد استمرّ هذا الإحساس لديها وهي تفكر في هذا الحلم؛ لقد كان بالأحرى شعوراً نائماً في أعماقها.
إنـّها الساعة العاشرة. ما زال لديها متسع من الوقت للذهاب إلى كلـّية الحقوق حيث كان عليها إلقاء محاضرة تبدأ عنـد الظهر. كانت قد اختـارت هـذا التوقـيت ليتسنـّى لها الاستمتـاع بصبحيـّة فضفاضة قبل الظهر.