كتاب " نقد الفكر اليومي " ، تأليف مهدي عامل ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب نقد الفكر اليومي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

نقد الفكر اليومي
في موقع الصفر بين الضدين لا يوجد للتاريخ مكان، فهو الحركة في السيرورة الثورية، تهدم لتمهّد للممكن أرض ضرورته. بين الضدين صراع لا يلغيه طموح الصفر إلى إلغاء الضدين ليبقى القائم ضد الممكن. هل يدرك ذاك الفكر اللابس وجه الفكر العدمي ظلاميّته؟ يحلم بالتغيير الثوري ويرفض شرط التغيير الثوري: أن يتحقق في حقل صراع الضدين، بقوة من يحمله التاريخ إلى تحقيق ضرورته ضد القائم، هذا الذي من موقعه يحلم ذاك الفكر بتغيير وهمي يُبقي القائم إذ يلغي الضد الممكن في إلغاء الضدين.
بالوهم يلغي هذا الفكر ما لا يُلغى إلا بصراع يتأكد فيه موقعه في موقع الماضي الذي هو في القائم موقع الصفر نفسه. لكن التاريخ عصيّ الفهم على من ينظر فيه من هذا الموقع، لا يُفهم إلا من موقع ما يلمع في الطرف الآخر من نفق الزمان، ولا يُصنع إلا من موقع الآتي فيه محكوماً بضرورته. ولا يكتب التاريخ إلا قادر على قراءته، من هذا الموقع الذي يتكشف منه لعين الفكر الثوري النافذ في الأحداث إلى عقل الأحداث، مهما اختلفت أشكال كتابته، شعراً كانت أم فلسفة، أم علماً يتكاثر في شتى أنواع المعرفة. وهل الكتابة، في وجودها اللغوي نفسه، غير تملّك للواقع التاريخي هو قبض أو محاولة قبض على الأساسي المحتجب فيه وراء طبقات متراكمة من الظاهري، كلما اخترقت الكتابة واحدة منها اعترضتها أخرى، في ملحمة استنباط الأدوات القادرة على ترويض الواقع، حتى يأتي، في ترويض الفكر، إلى لغة همّها أن تُري لا أن تُرَى؟ كل كتابة إراءة: فإما أن تقبل بالمخاطرة، فينتصر الفكر في محاولة المعرفة؛ وتنتصر الكتابة حتى لو فشلت المحاولة، وإما أن تنهزم إلى مرئي يتسطح فيها، أو تزداد ضحالته في ثرثرة هي في الفكر خرير اللغة الجوفاء. هذا خيار الفكر: أن يتقصّد المعرفة في أشكال من الكتابة يستحضر فيها غير المرئي من الموجود ليجعله مرئياً في لغة العلم وفي لغة الفن؛ أو أن ينغلق عليها في لغة يُلبسها، في الشعر وفي النثر، حلة آسرة تتستر فيها فراغاته، وظلامات ينزلق إليها، باسم الذات وحريتها، أو باسم الإبداع، في بؤس محاولاته تهشيم بنيان العقل وعمارات المنطق في المعرفة. بين العلم والجهل، لا يقف الفكر حائراً، ينتصر للأول، إلَّا إذا هيمن فيه الجهل، فهو، إذَّاك، ليس بالفكر، بل عدمه. هذا قدر الفكر العدمي: أن ينقلب إلى عدم فكري يتثبّت فيه الفكر الظلامي، وبه يفرح. وما هذا القدر بمأساة: إنه مهزلة الفكر المتنطّح للثورة، من موقع رفض الثورة، في إلغاء الضد الثوري بوضعه، مع نقيضه، مقابل الصفر، في خانة واحدة يطلق عليها اسم «النظام». هكذا يُستبدل التناقض الفعلي القائم في الوجود التاريخي المادي بين النقيضين: الفكر الثوري والفكر الرجعي، بتناقض وهمي يجده، أو يوجده الفكر العدمي في سماء التجريد الميتافيزيقي بين الصفر والرقم، أو بين العدم والوجود.
لا على الفكر بالمطلق يجري الكلام، ولا من خارج التاريخ يجري. نتكلم على فكر يوميّ يتكاثر في صفحات ثقافية تتكاثر في حرب أهلية لم تنته بعد فصولها، ولم تنته بعد من رفضها في أشكال من القول والفعل تختلف باختلاف موقع القول والفعل فيها. يتقدم هذا الفكر اليومي إلينا بمحاذاة الخبر عن الحدث اليومي، كأن بين الاثنين علاقة ودّ أو قرابة تتجسد في وجودهما جنباً إلى جنب في أعمدة الصفحة الواحدة، وفي عناوين متشابهة تحاول اجتذاب القارىء بأساليب من الإثارة والإغراء قد تفوق أساليب تسويق السلع الطامحة إلى استهلاك فوري. وإذ تتنقل العين، يوماً بعد يوم، بين الأخبار وبين الأفكار المبثوثة بوتيرة أحداث تتكرر، ترى ما هو بالفعل ظاهرة جديدة: لقد بات الفكر يطمح أن يكون كالخبر يومياً، أي حدثيّاً، لا ليلغي الحدث، بل ليستفسره عن منطقه، حتى يكون فاعلاً فيه. لم يعد الفكر يقنع بأن يظل حيث هو، أو حيث كان أو أراد له البعض أن يكون، في عليائه بعيداً عن حقل تلتحم فيه الأحداث بالأحداث، وفيه التاريخ يُصنع. وقارىء هذي الأحداث المحكوم بها، قسراً أو طوعاً، لم يعد يقبل للفكر إلَّا أن يكون له فيها موقع قلم، ومنها موقف يدخل به في السياسة، حتى لو كان لها رافضاً، أو شاء، بالوهم، أن يبقى «نظيفاً» في لامبالاة خادعة. لا طُهر للفكر إلا بانتفائه، فكل يدٍ ملوثةٌ بما تكتب، تنحاز حتى حين لا تنحاز، أو ترتدّ ضد الانحياز. إذّاك توهم بالطهارة، لكن من موقع رفض التاريخ، ومن خارج دائرة زمانه، أي من موقع «القدسي»، هذا الذي هو في التاريخ موقع الفكر الديني، وموقع فكر عدمي هو فكر ديني مقلوب، يلغي الله ويستبدله بالصفر الكلّي، وينظر في التاريخ بعين الله الملغى، من موقعه في المطلق. لا يتغيّر شيء باستبدال المطلق بالمطلق، فمن موقعه ينظر في التاريخ الفكر العدمي، وينظر فيه الفكر الديني، فيختلط الأسود بالأبيض، سواء بسواء، تُلغى الأضداد، ويبقى القدسيّ، العدم، المطلق، وهمٌ بالطهر، ومهزلة الفكريْن في مقاربةٍ للتاريخ تلغي التاريخ، ورفضٍ للسياسة يؤكدها.