أنت هنا

قراءة كتاب نقد الفكر اليومي

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
نقد الفكر اليومي

نقد الفكر اليومي

كتاب " نقد الفكر اليومي " ، تأليف مهدي عامل ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 5

السياسة طرف ثابت في معادلة

ما كانت السياسة يوماً حاضرة في الفكر مثلما كانت فيه إبَّان الحرب الأهلية وفي مراحلها اللاحقة، أي الراهنة. حتى بات الواحد منا يتساءل: أي الاثنين اقتحم الآخر؟ الفكر، أم ما أطلق عليه اسم السياسة؟ جولة خاطفة في ما كُتب أو ما يُكتب يومياً في سنوات الحرب الأهلية تكفي لترى سيلاً من مشكلات البحث والنقد صيغت في شكل يستوقف حتى فكراً يرهقه التفكير: مثلاً، الشعر والسياسة، النقد والسياسة، المسرح والسياسة، الأغنية والسياسة، الأدب والسياسة، الثقافة والسياسة، الحياة والسياسة، الحرب والسياسة... إلى غير هذا مما قد نجد، لو طاب لنا الاسترسال. فالسياسة، إذن، في مثل هذه الصيغة، طرف ثابت في معادلة طرفها الآخر يتغير بتغير أشكال الفكر والكتابة. بين الطرفين تعارض، أو تنابذ يصطنعه دوماً فكر يرفض، برفضه التاريخ، السياسة، باسم الشعر أو الإبداع أو الذات الفرد المطلق في حريته حيناً، وباسم الفن، الثقافة، الحياة، اللذة والالتذاذ أحياناً أخرى. ولأن للسياسة عنده وجه الموت، بما يعنيه من موت القائم، هذا الذاهب في الماضي، يعلن إذَّاك موت السياسة (10)، أو يرغب فيه، ويطمح بالوهم إليه. لكن، كيف يموت صراع تتولد فيه الحياة ضد قديمها ونقيضها؟ بمطلق الرغبة في موته. هكذا بالسحر يلغي الفكر الرافض للتاريخ،العاجز عن إدراكه، صراع الطبقات الذي هو هو السياسة، في مزمزة الكلمات يحقق رغبته، يعلن، عن حق، أن «الانشاء» هو الحل الأفضل لفكر يطمح أن يؤكد فراغه، كاللامبالاة (11) يعلنها حلاً للسياسة، أي موتاً بالوهم لها.
من نقطة الصفر في سرّة الفرد الوهمي، أي المطلق، ينظر هذا الفكر إلى العالم حوله، محكوماً برغبة الموت، وبالتذاذ هو منها الوجه الآخر، فيرى التاريخ يمضي في خط ضرورته، لا يعبأ بالسحر ولا بالانشاء، فيغتاظ القابع في هامش صفحته، يستنكر مجرى التاريخ الكوني، ويسجّل للقراء خلاصة دهشته: «أليس غريباً أن تستحوذ السياسة على العالم كله، أن تنتشر في سطح العلاقات وفي عمقها» (12)؟ وما الغرابة في هذا الأمر؟ نتساءل، ونشهد لهذا القول بشيء من حق. فالسياسة ما زالت كما كانت من قبل دوماً تحكم العلاقات الاجتماعية كلها، في ترابطها الداخلي في كلٍّ واحد يتماسك في حركتها المحورية، من حيث هي حركة الصراعات الطبقية في شتى أشكالها. إنها، في مختلف المجتمعات التاريخية، الحركة التي بها يتوحد المجتمع، في انبنائه على قاعدته المادية، وفي تطوره التاريخي في صراع الأضداد فيه. وهي أيضاً نفسها الحركة التي بها، في شكل آخر منها، يتفكك المجتمع ويفقد لحمته، فيدخل في زمن آخر منه هو الذي فيه ينتقل من بنية إلى أخرى. وليس في الأفق المنظور من التاريخ والمعرفة ما يُنبىء بإمكان تغيّر ما في هذا الوضع الذي هو للسياسة في التاريخ والمعرفة، ما دامت المجتمعات البشرية حتى اليوم مجتمعات طبقية، وما دام الصراع الطبقي فيها قانوناً كونياً، مهما اختلفت منه الأشكال، وتباينت الشروط. فالغرابة، إذن، ليست في أن يكون للسياسة مثل هذا الوضع المعروف إلى حدّ تمكّن فيه ذاك القول من أن يتبيّنه، فكان لزاماً علينا أن نشهد له بشيء من حق. الغرابة هي في أن يأتي هذا القول في شكل سؤال يرى الغرابة في ما قد تبيّن. ولا يراها فيه إلا ليرفضه. إنه ضد السياسية بالمطلق، أي ضد كل سياسة، سواء أكانت رجعية أم ثورية، وضد حركة الصراع فيها، سواء أكانت من أجل الإبقاء على القائم، أم من أجل تغييره. لا مع الثورة المضادة، ولا مع الثورة، بل ضد الاثنتين معاً، وضد حركة الصراع بينهما، لأنها السياسة، وهو ضدها بالمطلق. لا يختار موقعاً، لا يلتزم بموقف. يضع نفسه في هامش المواقع والمواقف، ويعلن مستنكراً: «نحن حيوانات سياسية نسيت أشياء الحياة الأولى» (13). ليس التناقض في السياسة. ليس فيها قائماً، باختصار، بين قوى بشرية اجتماعية هي قوى الثورة، وأخرى هي القوى المضادة للثورة. إنه، بالعكس، عند هذا الفكر، بين السياسة والحياة، أي بتعبير آخر يتضمنه الأول كبداهة، إنه بين الموت والحياة، أو، بالمجرد، في صورة منه، بين العدم والوجود.
هذا فكر لا يحب التعقيد. يعشق البساطة، فهي تريح. يختزل ويؤكد. مثلاً، على قاعدة إلغاء الواقع المادي وحركة التاريخ الفعلي فيه، ومن موقعه في هامش صفحته البيضاء، يُسقط من السياسة أطراف التناقض والصراع فيها، فتستحيل به السياسة كلمة جوفاء يظنها مصطلحاً أو مفهوماً يدخله كطرف في تناقض طرفه الآخر، كالأول، كلمة جوفاء هي «الحياة». تنزلق السياسة في الوعي اليومي الذي يتوجه إليه هذا الفكر اليومي إلى موقع الموت فيه، في ذاكرة العلاقة المتكررة بين الموت والحياة. فالسياسة كلها للموت، وهي أداة له (14)، تلغي تفاصيل الحياة، فينسى كل من فيها وهمالبشر كلهم ـ «رغباتهم التي تكونت حول امرأة أو بيت أو شارع مُضاء» (15)، كأن «تفاصيل الحياة عندهم هي الصراعات الكبرى» (16). فالحياة، إذن، ليست ممكنة إلا ضد السياسة، وتفاصيلها ليست كذلك إلا بإلغاء تفاصيل السياسة، تلك التي يُسقطها منها هذا الفكر اليومي ليستقيم له فراغ القول في إحلالها محل الموت في علاقته بالحياة.
هكذا يستعيد هذا الفكر لغة البداهة في الوعي اليومي ليترسّب فيه، ويكون له فعل ليس له إلا بمقدار ما يستسلم للفكر المسيطر ـ أي للايديولوجية البورجوازية المسيطرة ـ ويسهم، في تحالفه المرئي وغير المرئي معه، في تجديد أشكاله، بحسب ما تقتضيه شروط تجدُّد الصراع الطبقي واحتدامه بين قوى الثورة المضادة وفكرها الرجعي، وبين القوى الثورية وفكرها المناضل. لا غرابة في هذا الأمر. فالفكر المسيطر غالباً ما يلجأ إلى لغة البداهات ليقدم فيها نفسه، لا سيما حين تهتز مواقع سيطرته في الوعي الاجتماعي، بفعل اقتحام الفكر الثوري لها. وظيفة هذه اللغة، إذن، تكمن في تحصين هذه المواقع، بتدعيم أسسها الممتدة في ذاكرة الوعي اليومي، أو ما يمكن تسميته؛ بتحفظ ـ اللاوعي الاجتماعي، هذا الذي هو، بامتياز، قاعدة الايديولوجية المسيطرة. لا تعرف هذه اللغة جديداً. فإذا طرأ عليها جديد يتهددها، أحالته قديماً يتجدد، أي يتأبّد في أشكال تألفها ذاكرة الوعي اليومي، فتدخله فيها كي لا يتجدد إلا ما يسهم في تأمين تجدد فكر يستخدمها، هو بالذات الفكر المسيطر. هكذا يُلغى فيها كل جديد تستقبله، كي يبقى ما يجب أن يبقى، أي ما هو ضروري لبقاء القائم: قالب من الفكر يتكرر في فراغ يؤمّن للفكر المسيطر تجدد سيطرته. كالسياسة في الحرب الأهلية في لبنان، مثلاً، تستقبلها لغة البداهة في فراغ العلاقة بين كلمة الموت وكلمة الحياة، فتسقط السياسة، بما هي صراع مادي تاريخي بالغ التعقيد، ويبقى فراغ تلك العلاقة يتكرر في إدانة للسياسة تأخذ، في تضليل البداهة ولغتها، شكل إدانة للموت، في دعوة إلى اللامبالاة تظهر كأنها دعوة إلى الحياة، في إعلان الاضراب عن ممارسة الصراع في السياسة، بل في الحياة نفسها.
لا يرفض الفكر المسيطر ـ ولا القوى المضادة للثورة ـ مثل هذه الدعوة تأتي من فكر يطمح أن يكون مختلفاً، بل بالعكس، يستنجد بها لأنها، في حقيقتها الفعلية في حقل الصراع السياسي الذي لا إفلات لها منه إلا بالوهم، «دعوة إلى الموت» (17) ضد الحياة. «فالحياة صراع» (18) لا ينتصر فيه إلا من ينتصر لها.

الصفحات