أنت هنا

قراءة كتاب نقد الفكر اليومي

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
نقد الفكر اليومي

نقد الفكر اليومي

كتاب " نقد الفكر اليومي " ، تأليف مهدي عامل ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 6

عدمية الفكر/ عدمية السياسة

هل غريب أن ينعقد بين الفكر المسيطر والفكر العدمي، أو اللابس وجه الفكر العدمي، تحالف يستدعيه الأول، والثاني يستسلم له؟
لا غرابة في هذا الأمر أيضاً. فمن عادات الفكر المسيطر، حين تهن عزيمته في إخضاع الوعي اليومي لسيطرته، أن يستعين بأشكال من الفكر متنوعة، بالية أو مستحدثة، قد تختلف عنه، لكنها تصب جميعاً، عن قصد أو غير قصد، من مواقع وجودها وتحركها في حقل الصراع الايديولوجي، في اتجاه واحد هو الذي يرتسم في هذا الحقل ضد الفكر الثوري النقيض. هكذا تنعقد في الفكر، بين تياراته المتصارعة، تحالفات تنعقد أيضاً في السياسة بين تياراتها المتصارعة. ولا تستقر هذه التحالفات، لا في الفكر ولا في السياسة، على أرض ثابتة، بل هي دوماً في حركة، على قاعدة الأرض التاريخية التي تنعقد فيها، تتغير بتغير هذه الأرض، وتتمرحل بتمرحلها. لكن الثابت فيها قطباها، في زمن تاريخي واحد هو زمن نمط الانتاج المسيطر في البنية الاجتماعية القائمة. حول هذين القطبين تنعقد التحالفات، في الفكر وفي السياسة. فالصراع الفكري، الصراع السياسي، يتمحور حول الصراع الرئيسي بين القطبين اللذين هما النقيضان، بهما تتحدد المواقع، مهما اختلفت، في حقل الصراعين، فكل منها محكوم بعلاقته بهما، ينجذب إلى أحد الاثنين، فينبذه الآخر، أو بالعكس، ولا إفلات له من هذا الوضع. فإن أفلت، فالبوهم وحده، في إلغاء سحري للنقيضين، به تلغى، سحرياً، كل المواقع، فنعود ثانية إلى عدم من الفكر يطمح أن يكون عدم السياسة. ولا عدم، في الحالتين، إلَّا بفكر يرفض أن يكون له موقع من الصراع الفكري بين النقيضين: الفكر الثوري، المادي التاريخي، أي فكر الطبقة العاملة، والفكر الرجعي المسيطر في ايديولوجية البورجوازية المسيطرة، لأنه يرفض أن يكون له موقع من الصراع السياسي بين النقيضين: الطبقة العاملة والبورجوازية المسيطرة. وللدقة يجب القول، من الشكل التاريخي الملموس الذي يجري فيه الصراع هذا في الحرب الأهلية في لبنان، في مرحلته الراهنة، كصراع بين تحالف القوى الفاشية وتحالف القوى الوطنية الثورية.
حاجتنا إلى تدقيق القول تأتي من أن هذا الفكر يحاول، واهماً، أن يجد لرفضه هذا تبريراً هو أن الصراع، في هذه الحرب الأهلية، ليس بين النقيضين. فلو كان بالفعل بينهما صافياً كما هو في صفائه النظري، لربما كان له موقع منه. لكنه ليس كذلك. فهو ملوّث بوحل الواقع المادي ومستنقعاته (19). فكيف يكون له موقع مما يرفضه باسم الطهر والنظافة؟ إما أن يجري الصراع صافياً، في واقع صافٍ، أي متحرر من ثقله المادي التاريخي، فيكون لهذا الفكر، إذَّاك، منه موقع، هو موقع الفراغ من الفراغ في الفكر وفي الواقع؛ وإما أن يجري في حركته المادية في أشكال تاريخية محددة لا ينوجد إلا فيها مميزاً، فيرفضه هذا الفكر، ويمتنع عن أن يكون له موقع منه، ويرى فيه موقع السقوط في الواقع المادي.
في هذا الواقع التاريخي يجري الصراع السياسي بين النقيضين دوماً في شكل صراع بين تحالفين طبقيين يتمحور كل منهما حول النقيض الرئيسي في نمط الانتاج المسيطر في البنية الاجتماعية القائمة، في أشكال تختلف باختلاف الشروط التاريخية للتحالف، وتتفاوت بحسب تفاوت الحركة المحورية للصراع الطبقي في هذه البنية الاجتماعية. سهل على الفكر أن يجرّد هذا الصراع من شروطه التاريخية المادية، وأن ينتزعه من أشكال فيها يتميّز ملموسياً، لينتقل به من عالم الخطيئة إلى عالم الطهر، فيراه منعكساً في مرآة نفسه: صراعاً لا وجود له إلا في عدم الفكر، أو فراغاً من صراع. سهل عليه أن يقوم بهذا الذي لا يقوم به إلا برغبة الموت تدفعه إلى إلغاء الواقع المادي بإلغاء الصراع الفعلي فيه. سهل هذا، لكن بشروط: أن يتحرر الفكر، بدئياً، من ضرورة المعرفة ومن عبء موضوعها، بإلغاء الواقع المادي الذي إذا اصطدم به استعصى عليه، أو بحصره في ظاهر الأحداث اليومية، أي في سطح منه هو بمثابة إلغاء له، فيتسنّى حينئذٍ للفكر أن يجول في فراغ تسبح فيه الكلمات، كأنها الأشياء نفسها. في مثل هذا الفراغ تحل الكلمات، إذن، محل الأشياء، لا من حيث هي المفاهيم، أي أدوات الفكر الضرورية في إنتاجه المعرفة، بل من حيث هي مجرد ألفاظ متحررة من مضمون المعرفة، بتحرر الفكر من الواقع المادي. يبقى على اللغة أن تقوم بوظيفتها الايديولوجية في ترتيب الألفاظ الجوفاء بحسب منطق الإنشاء، حتى يكتمل للفكر تحقيق هدفه في إحلال منطقه، هذا الذي هو منطق فراغ القول، محل منطق الواقع المادي. هكذا يتسق هذا الفكر باتساق لغته، والعكس بالعكس، كل منهما يقوم بدوره على أحسن وجه: في فراغ القول توهم اللغة أن ألفاظها هي الأشياء، ويوهم الفكر أن منطقه هو منطق التاريخ نفسه. لكن، لا بد لهذا الفكر ولغته من توسّط البرهان حتى ينجح الاثنان في توليد هذا الإيهام الذي يلازم بالضرورة كل ممارسة ايديولوجية للفكر واللغة. فوظيفة هذه الممارسة تكمن، بتعبير آخر، في ضرورة توليد هذا الإيهام بالذات. وهي هي وظيفة الممارسة الايديولوجية للبورجوازية المسيطرة، يقوم بها كل فكر يستسلم للفكر المسيطر، عن وعي أو لا وعي، أو ينزلق إلى واقعه في حقل الصراع الفكري، وفي حقل الصراع السياسي أيضاً، فيشترك معه في إلغاء وهمي (أو مثالي) للواقع المادي يؤبّده.

الصفحات