كتاب " نقد الفكر اليومي " ، تأليف مهدي عامل ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب نقد الفكر اليومي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

نقد الفكر اليومي
في ممارسة وظيفة الفكر المسيطر
لم نربط الفكري بالسياسي اعتباطاً، بل عن قصد. فالاستسلام السياسي للبورجوازية، أو الانزلاق إلى مواقعها في حقل الصراع السياسي، غالباً ما يقود الفكر إلى مواقع الفكر المسيطر، حتى لو كان مختلفاً عنه، أو أراد لنفسه أن يكون كذلك، أو أن يؤكد هذا الاختلاف. كما أن انزلاق هذا الفكر إلى مواقع الفكر المسيطر في حقل الصراع الفكري (الايديولوجي)، غالباً ما يقود إلى استسلام سياسي فعليّ للبورجوازية، أو إلى الانزلاق إلى مواقعها في حقل الصراع السياسي. فالتحالفات تنعقد، كما سبق القول، في الفكر والسياسة، في ترابط حركة الاثنين في الحركة المحورية للصراع الطبقي. كمثل هذا التحالف الذي يستسلم فيه للفكر المسيطر فكرٌ يلبس وجه الفكر العدمي، ويمارس في حقل الصراع السياسي بالذات وظيفة الفكر المسيطر، في تغليب منطق الإنشاء على منطق الأشياء، أو في تغييب منطق الأشياء في هذا الصراع، وإظهار منطق الإنشاء في ترتيب الألفاظ كأنه منطق الأشياء في السياسة. فهو، إذن، فكر سياسي بامتياز، يغيّب السياسي فيه، بتغييب موقعه الذي هو، في حقل الصراع السياسي والايديولوجي، موقع الفكر المسيطر نفسه، ويجتهد، كهذا الفكر في ممارسته الايديولوجية، في أن يكون مقنعاً، أي فاعلاً في الوعي اليومي، وعبره، في الواقع الاجتماعي. وفي هذا تناقض بين رفضه السياسة ورفضه أن يكون فكراً سياسياً، وبين اجتهاده هذا الذي يطمح فيه أن يكون، بالفعل، سياسياً. لكنه لا يأبه لهذا التناقض، ما دام الوقوع فيه يساعده على أن يقوم بوظيفته الايديولوجية التي لا ينجح فيها إلا بمقدار ما ينجح في تغييب السياسي فيه، بتغييب موقعه الفعلي ذاك في السياسة. ومتى كانت الممارسة الايديولوجية للفكر تأبه للوقوع في مثل هذا التناقض؟ فالغاية عندها ـ وهي سياسية، في محاولة إحكام القبضة على الوعي اليومي ولويه في اتجاه يرضى به الفكر المسيطر ـ تبرر الوسيلة، وتغفر لها ما لا يُغتفر في ممارسة أخرى للفكر هي ممارسته الثورية ـ أي العلمية ـ في نقض الايديولوجية المسيطرة ونقض آلية تغييبها السياسي في الفكر وفي الواقع.
محور الصراع بين الفكرين النقيضين هو السياسي إذن، يُغيَّب من موقع الفكر المسيطر، يُستحضر من موقع النقيض، بنقض هذا الفكر وكشف موقعه لهذا التغييب دلالة، ولهذا الاستحضار أيضاً. في تغييب السياسي إدانة، لا للسياسة بالمطلق، ـ كما يتوهم، أو بالأحرى يوهم فكر يمارس هذا التغييب ـ بل لسياسة بعينها، أو قل لممارسة سياسية هي ممارسة البورجوازية المسيطرة التي تخشى الوضوح في حركة التاريخ، لأن في هذا الوضوح وعياً بحكم الموت عليها، في ضرورة تقويض القائم وتحويله. في استحضار السياسي تكريس، في الوعي، لهذا الحكم بالموت، تنفِّذه الممارسة الثورية في صراع يشمل كل الحقول، ضد القائم بنظامه، في نظام البورجوازية المسيطرة. أما الوعي اليومي، فهو الحقل الأفضل للصراع بين الفكرين النقيضين، وهو المقصود الأول في هذا الصراع المتمحور بينهما حول السياسي، يستهدفه كل منهما، إذ يطمح أن يكون له موقع السيطرة فيه، حتى يكون فاعلاً في حركة التاريخ، إما في اتجاه القائم بنظامه في الواقع الاجتماعي، أو في اتجاه تحويله الثوري. أن يكون الفكر مسيطراً يعني، إذن، أن يحتل في الوعي اليومي موقع السيطرة، أي أن يكون المسيطر فيه. وهو، كما يعلم الماركسيون، بشكل عام، فكر الطبقة المسيطرة. أما الفكر النقيض، وهو فكر الطبقة النقيض، فخاضع لسيطرته، حتى في وعي الطبقات الكادحة، أو قل لا سيما في وعي هذه الطبقات.
لكن علاقة السيطرة، في هذا الوعي، بين الفكرين النقيضين، ليست بالضرورة علاقة ثابتة، وليس فكر الطبقة المسيطرة هو المسيطر دوماً في الوعي الاجتماعي، في كل أزمنة البنية الاجتماعية. إن مثل هذه النظرة الخاطئة لا تجوهر الفكر وحده، فتخرجه من حركة الصراع في التاريخ، وتلغي الصراع في تاريخه، بل هي، فيما تجوهر، تجوهر التاريخ أيضاً، فتلغيه، وتجوهر مواقع الفكر في حقل الصراع الاجتماعي، فتؤبِّدها في تأييدها البنية الاجتماعية القائمة وتأبيد زمنها المتكرر. في احتدام الصراع الطبقي بين الطبقتين النقيضين، في الشروط التاريخية المحددة، وفي الأشكال الملموسة التي أشرنا إليها سابقاً في هذه الحرب الأهلية المستمرة، يحتدم الصراع بين الفكرين النقيضين، فتهتز مواقع الفكر المسيطر، تتضعضع وتتصدع في هجوم تاريخي للفكر الثوري، يحدث تغييراً في علاقة السيطرة بين الفكرين، هو الذي يظهر في احتلال الفكر الثوري مواقع متقدمة في الوعي اليومي، على طريق اقتحام مواقع الفكر المسيطر في هذا الوعي. لذا نرى الفكر المسيطر يستعين بكل فكر آخر يساعده في تعزيز مواقعه الدفاعية، وفي تنظيم الوعي اليومي وتأطيره، حتى يبقى أسير هذه المواقع، لا يخترقها إلا ليعود إليها ثانية، في أشكال من الفكر عليها تأمين هذه العودة.