قراءة كتاب العلم والفلسفة الأوروبية الحديثة من موبرنيق إلى هيوم

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
العلم والفلسفة الأوروبية الحديثة من موبرنيق إلى هيوم

العلم والفلسفة الأوروبية الحديثة من موبرنيق إلى هيوم

كتاب " العلم والفلسفة الأوروبية الحديثة من موبرنيق إلى هيوم " ، تأليف د. أيوب أبو دية ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 4

عبّر أنكسمندر عن حُمّى التساؤلات العقلانية التي اجتاحت أيونيا آنذاك، فلم يعد العالـَم مغلقاً، كمحارة في الماء، أو كعلبة (Box) لها أرضية وسقف، كما ظنّ الفراعنة.أصبح العالم لا نهائي الأبعاد والامتداد الزماني (11). فالأرض، عند أنكسمندر، أشبه بعمود أسطواني الشكل يحيط به الهواء. وتسبح الأرض في وضع معتدل في وسط الكون، ومن دون دعائم تقف عليها. وبالرغم من ذلك، فهي لا تنهار، ذلك لأن وجودها في المركز لا يجعلها ترغب في الحركة في أي اتجاه آخر، ولأن ميلانها سيؤدي إلى تدمير التناظر والاتزان الموجودان في الكون.

أمّا أنكسمانس فقال إنّ الأرض منبسطة، وتعوم في الهواء كورقة الشجر. كذلك، تعوم الأجسام السماوية في مسار يبدو لنا منحرفاً، إنما الحقيقة هي أن الأرض نفسها منحرفة (مائلة)، لذلك لا نرى معظمها من المنطقة المنخفضة، لأن جزء الأرض المرتفع (المقابل) يحجبها عنا. وهذه فكرة طاليسية، فقد ذ كر أرسطو رواية طاليس "أن شكل الأرض كالقرص، وأنها طافية فوق الماء".

وبالرغم من هذا التصور البدائي، فإنه تَقدُّم هائل مقارنة بالتصور التقليدي للأرض، الذي حاول أن يجعل من السماء والأرض بمثابة محارة أو علبة مغلقة. فإن افتراض أن الأرض طافية، ولا ترتكز إلى شيء، هو بحد ذاته تفكير تجريدي هائل، ويدل على تطوُّر في القدرة على التصور العقلي لم يستطع العقل البشري بلوغ مرتبتها من قبل.

وفي نهاية القرن السادس قبل الميلاد، شن إكسانوفان (12) (Xenophanes) حملة شعواء على تعدد الآلهة، مستمداً أسلحته الفكرية من علوم عصره، وبخاصة من علم الفلك عند أنكسمندر. إذ ردَّ الآلهة الإغريقية المتعددة إلى ظواهر جوية، وقال بإله واحد هو العالـَم (The World) ، لا يشبه البشر، وليس له أعضاء حسـية محدودة، ولكنه يُفكـّر، ويرى، ويسمع كل شيء.

إعتقد إكسانوفان بالمذهب الحلولي (Pantheism) على نحو يُذكـّرنا بوحدة الوجود عند سبينوزا (13) (Spinoza) ، وقال إنّ الأرض متجذرة في اللانهائي، وليس للشمس أو للنجوم مادة، كما أنها ليست خالدة. وتموت النجوم كل يوم، وتتكوَّن، عوضاً عنها، نجوم جديدة في المساء بفعل زفرات الأرض. وفي كل صباح، تولد شمس جديدة!

وينبغي ألاّ يُظنّ أنّ هذا التفسير متخلف كثيراً، فقد ظن غاليليو (14)، الذي جاء بعد إكسانوفان بألفي عام تقريباً، أنّ الشُّـهب (Comets) مجرّد وهم. وهذه المقاربة تساعدنا على فهم العوالق التاريخيّة التي ظلت تؤثر في فكر علماء الثورة العلمية الكبرى ومفكريها حوالى القرن السّابع عشر. وتساعدنا أيضاً في فهم سعينا لوضع تعريفات دقيقة لفهم المادية في ذلك العصر.

خرجت بلاد اليونان موحَّدة في مطلع القرن الخامس، إثر الحروب الفارسية، ولكنها مع نهاية القرن الخامس، كانت ضحية الحروب الشرسة التي وقعت بين المدن الإغريقيّة نفسها، والتي انتهت بفوز ساحق لإسبارطة. فقد استسلمت أثينا في عام 404م، ثمّ سادت فيها روح مغرقة فيالإحباط، وما لبثت أن ضربها الطاعون، وتفشت فيها الأمراض المختلفة، وكان يشعر الأثينيون أن نهاية العالم قد اقتربت، فارتدَّوا إلى أنفسهم، ولم يعودوا يحتملون رجال الفكر (15).

وفي خضمّ هذا التقهقر، ونزوح الأيونيين إلى الداخل، ظهر بارمنيدس (16) (Parmenides) ، الفيلسوف الميتافيزيقي الصّرف، الذي تَصوَّر أنّ في وسع الإنسان بلوغ الحقيقة المطلقة بالوسائل المنطقية وحدها. فهل نجد أنفسنا أمام تصوّف من نوع خاص لا يصيب وباءه الأمة إلافي أطوار انحطاطها؟ وهل جاء سقراط (17) (Socrates) ، الذي تحدث إلى بارمنيدس في صغره، لِيُعبِّر عن تأَزُّم أثينا، معلناً بداية البحث في الأخلاق ومعرفة الذات؟

كانت المادة والسبب الكامن من وراء الحركة، كلاهما، يعنيان شيئاً واحداً عند الأيونيين. وعند ديمقريطس (18) (Democritus) ، أيضاً، لا تنفصل الحركة عن المادة لأنّ المادة متحركة بذاتها. كما أن حركة الذرات لا بداية لها، فالعالم، عنده، قديم. أضف إلى ذلك تفسيره الطبيعة بالطبيعة ذاتها.

والحركة عند ديمقريطس تستدعي الخلاء، كما تستدعي حركة الكرات المتراصة خلاءً لتتحرك منزلقة حول بعضها البعض؛ وهي فكرة سيتم إحياؤها في نهاية القرن السادس عشر كما سوف نرى لاحقاً.

إعتقد أنكسمانس بحركة المادة الأولى الدائمة، بالرغم من أنه قال إنها الهواء، لا الماء. فالمادة التي تتحرك ذاتياً كانت تعني"الحياة " بالنسبة إلى الإغريق. ولمّا كان الإنسان يتنفس الهواء، فأنه بذلك يتنفس الحياة. وكان الفيثاغوريّون يعتقدون أن العالم كله حيّ، وأنه مخلوق يتنفس. فطالما مادة الحياة خالدة، فهي إذاً إلهية. كان الإلهي والخالد مفهومين متلازمين عند الإغريق، ولا يمكن فصلهما. وربما هذا ما عناه طاليس بقوله: "كلّ شيء مليء بالآلهة" (19).

أمّا أنكساغوراس (20) (Anaxagoras) ، فقال بسبب أوّل، سمّاه "العقل" (Mind) ، وعَزى إليه تنظيم الفوضى الأولى (Original chaos) . لقد استعمل فكرته الجديدة هذه كوسيلة لانطلاق الحركة فقط، إذ انسحب العقل بعدها، وترك العالم يعمل بمادية وميكانيكية. وقد تمت معاقبة أنكساغوراس لقوله إن الأفلاك غير حية.

ولكنْ، عند أفلاطون (Plato) ، تأتي الحياة أولاً، وهي السبب الرئيس لحركة المادة. أمّا مسبب الحركة الأول فيتضمن مصدر الحركة في ذاته. وضرب مثلاً على شيء متحرك بذاته (Self-mover) ، وقال إنـّه مبدأ الحياة (psyche) ، وإنـّـه أقدم الأشياء، والسبب الرئيس لحركة كلشيء (21).

وهذا تفسير ربّما يكون أقرب إلى المثالية منه إلى المادية، وإنْ كان يمكن فهمه على نحو مختلط، أو على نحو يماثل ما سعى الأيونيون إليه، أي الحديث عن مادة تفسّر حركتها الذاتية بغض النظر عن السبب الأول للحركة.

الصفحات