عندما شرعت بالكتابة عن أبي القاسم الشابي، كنت أعرف، أن عدداً من الكُتّاب والمؤلفين والباحثين كتبوا عنه، وبجدية عالية، ولكنني عندما راجعت هذه المؤلفات وتمعنت فيها وجدت أن كل واحد تخصص في جانب معين، فبحث فيه واستقصاه قدر استطاعته وإمكانياته، ورأيت حينها أن ال
أنت هنا
قراءة كتاب أبو القاسم الشابي - حياته وشعره
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 7
أخي الفاضل:
تحية وشكراً
وبعد، فإنني أود أن أحدثك وأناجيك، وأصبو لأن أرافقك وأماشيك في تلك السبل التي جال فيها يراعك، ولكن بماذا؟ أبهذا القلب الذي كسرته صخور الحياة؟ أم بهذه النفس التي مزقتها أعاصير الوجود؟ أم بهذا الفكر الواهن المخبول؟ أم بهذا الوجدان التائه في شعاب الغد الغامض المريب؟
والرسالة طويلة تعبر عن أوجاع وآلام الشاعر، فقد بدأها بالتقدير والاحترام ثم بعدد من الأسئلة فيها وجع وأعاصير وخمول وتوقع للغد ثم ينتقل إلى الآهات وأهوال الحياة وإلى القدر الذي يعبث بالبشر ثم إلى ضيق الشاعر بالحياة محاولاً أن يبين لصاحبه مقدار ألمه وهمومه ثم يشرح حالة أبيه الذي علا الشحوب وجهه بسبب المرض بعد أن عهده قوياً متماسكاً وهو الآن ضعيف خائر القوى أمام أنات القهر، متمنياً على صديقه أن يدعو الله وأن يصلي له بأن لا يفجعه بوالده وان يشفيه من أسقامه بروح مؤمنة بالله وبقدره، وفي نهاية الرسالة الطويلة والتي بإمكان القارئ أن يعود إليها في كتاب المحقق الأستاذ أبو القاسم محمد كرّو (الشابي حياته وشعره) ص66-70 عاد الشاعر يغني أغنية الحيرة والحنين فقال:
يا بني أمي ترى أين الصباح
قد تولى العمر والفجر بعيد
وطغى الوادي بمشبوب النواح
وانقضت أنشودة الفصل السعيد
أين نايي هل ترامته الرياح
أين غابي أين محراب السجود
يا بنات الليل، قد غاض الصداح
منذ طاشت نشوة العيش الحميد
يا بني أمي ترى أين الصباح
وراء البحر أم خلف الوجود
يا بني أمي ترى أين الصباح
وإن بدا الشاعر في رسالته أسيفاً ضعيفاً، إلا أن بحثه عن الصباح فيه أمل، ومع أنه سوف يبقى ناثراً في الحقول الجرداء العارية بذور الأسى إلا أنه ينتظر الصباح ليرى تفتح الأكمام عن الورود الجميلة، ويسمع تغريد البلبل وراء الزهور وإن كانت
إن الدهور البواكي
غنية عن دموعي
فراحة الليل مليئة بالدموع، وكان الشاعر يتمنى لو يسمع صديقه أغاني المسرة بدلاً من الألحان المؤلمة ولكن ماذا يصنع أمام المريض الذي لا يخرج منه إلا الأنين والجرح لا يرشح بغير الدماء، ويظهر الشاعر في نهاية رسالته شاكياً متبرماً بائساً متشائماً حين يقول: «أما الغاب وأسراره والجبل وأصداؤه والشحرور وألحانه العذبة الحبيبة، فإن عهدي بها بعيد، وأن تلك السعادة الإلهية الطاهرة وتلك المباهج والمناظر والأغاني لا تنعم بها إلا الأبصار الطافحة بالأشعة المكحولة بالبسمات، أما الأجفان التي قرحها الدمع وأذواها الألم فإنها قصية عن تلك المناظر، منفية في سجون الحياة».
فالتضرعات ترد الأقدار، ولا ترحم الصغار ولا توقف كلوم الكبار، فقد انتقلت روح الشيخ الوالد إلى السماء في 8/9/1929 وتجرع الشاعر غصص المتاعب، ولم يكن بعد قد دخل تجربة الحياة، وهذا الذي زاد محنة الشاعر وضاعف من عذابه، وهذا ما جعل الشاعر يتخيل دائماً روح والده حائمة حوله كل ليلة، وفي ليلة 12/1/1930 خلا إلى نفسه ليبين كم هي المصيبة كبيرة وآثارها عليه واضحة، فقد حضر طيف أبيه فسطر يقول: «ليس لدي ما أكتبه اليوم عن نهاري هذا، ولعلي خير لي أن أذهب إلى فراشي وأنام لأنسى ما في عالم الأحلام... وسأرى أبي. آه ! نعم ذلك الأب الذي قد شق له الناس قبره وسووا التراب عليه وبقيت بعده في الحياة آلم وألذ وأُسرُّ وأحزن! أجل سأراه كما قد رأيته في لياليَّ الخالية حينما ينطفئ السراج ويشمل الغرفة ظلام الدجى...».
وإنني وأنا أكتب هذه العبارات وغيرها من النثر، أرى الشاعر يرثي والده بل يندبه ويتحسر ويتألم، فهل رثاه شعراً؟
يقول بعض النقاد إنهم لم يجدوا رثاءً في شعر الشابي، ولم يرث أحداً، لأنه وصف في ذكرياته حبه الميت، وهي كثيرة، غير أنني مع الأستاذ أبي القاسم محمد كرّو، فقد تبين أنه رثى والده بقصيدة واحدة بعنوان «يا موت» فور وفاة والده ودفنه، وإن كانت القصيدة متواضعة في فنها وشعورها، وهي أقرب إلى النواح وقد مهد لها بقوله: «هي صرخة من صرخات نفسي المملوءة بالأحزان والذكريات، وشظية من شظايا هذا القلب المحطم على صخور الحياة، قلتها في أيام الأسى التي نكبتني بوفاة الوالد رحمه الله».
والآن نقتطف منها بعض الأبيات، لنثبتها كاملة مع أشعاره.
يا موت ! قد مزقت صدري وقصمت بالأرزاء ظهري
ورميتني من حالقٍ، وسخرت مني أيّ سُخر
فلبثت مرضوض الفؤاد، أجرُّ أجنحتي بذعر ...
وقسوت إذ أبقيتني في الكون أذرعُ كلَّ وَعْر
وفجعتني فيمن أحب ، ومن إليه أبث سرّي
واعده فجري الجميل ، إذا ادلهمّ عليّ دهري
وأعده وردي ومزماري وكاساتي وخمري
وأعده غابي ومحرابي وأغنيتي وفجري ...
عجيب ما قاله البعض: إن الشاعر لم يرث أحداً، أليس هذا بوح للنفس وهو يخاطب الموت، صحيح أن القصيدة ندب ونوح وصرخة، أوَليس كل هذا الألم فاجعة في الرثاء، ومن كان يعني بأبياته، فالحزن يزداد تدرجاً مع القصيدة باندفاع الأسى في مشهد كبير أقفرت فيه عرصات صدره، ومشى مطرقاً لثقل الأفكار، ومثلت نفسه الدنيا وينتظر هو نفسه دوره، وها هو يجالد الحياة ليضمن لأسرته عيشاً هادئاً في حياة الكفاف، لأنه لم يلج باب الارتزاق من المناصب الحكومية وهذا ما عناه البعض حين قالوا: «كنا نرى في نفسه الزكية مثال القناعة في أفضل ألوانها والطموح على خير وجوهه».
والشاعر مثل غيره من البشر، فربما تزاحمت الهموم، لكنه يعيش في عالم زاخر بالألحان والأضواء والمرح والسرور، وها هو يقول:
ما كنت أحسب بعد موتك يا أبي
ومشاعري عمياء بالأحزان
أني سأظمأ للحياة وأحتسي
من كأسها التوهج النشوان
وأعود للدنيا بقلب خافق
للحب والأفراح والألحان
ولكل ما في الكون من صور المنى
وغرائب الأهواء والأشجان
فإذا أنا طفل الحياة المنتشي
شوقاً إلى الأضواء والألوان
إن ابن آدم في قرارة نفسه
عبد الحياة الصادق الإيمان
__________________________
(1) أبو القاسم محمد كرو، الشابي حياته وشعره عن مجلة الأفكار التونسية 1/12/1936.