عندما شرعت بالكتابة عن أبي القاسم الشابي، كنت أعرف، أن عدداً من الكُتّاب والمؤلفين والباحثين كتبوا عنه، وبجدية عالية، ولكنني عندما راجعت هذه المؤلفات وتمعنت فيها وجدت أن كل واحد تخصص في جانب معين، فبحث فيه واستقصاه قدر استطاعته وإمكانياته، ورأيت حينها أن ال
أنت هنا
قراءة كتاب أبو القاسم الشابي - حياته وشعره
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 9
الخيال الشعري عند العرب
صدّر أبو القاسم كتابه بإهداء لوالده الشيخ محمد بن بلقاسم الشابي معترفاً له بجميل التربية صغيراً وتثقيفه له كبيراً، وإفهامه معاني الرحمة والحنان وتعليمه الحق في هذا العالم، متوخياً في كتابه صراحة الصدق وجمال الحقيقة.
وتلا هذا الإهداء كلمة المؤلف وهو نفسه حيث أنه اعتبرها مسامرة ألقاها في قاعة «الخلدونية» في العشرين من شعبان 1348هـ 1929م) وقدمها للطباعة دون تنقيح، ثم جاءت مقدمة الأستاذ زين العابدين السنوسي وهو صديق الشاعر وقد تحدث فيها عن نهضة أدبية في أواخر القرن التاسع عشر، وجاءت هذه المقدمة في نحو سبع صفحات تحدث فيها عن الكتاب ثم عالج قضية النقاد الذين تعرضوا إلى الأدب القديم وأخيراً تحدث عن المحاضرة التي ألقاها أبو القاسم والتي أطلق عليها «المسامرة لأول مرة» والتي ظهرت فيها جرأة أبي القاسم الذي كان أول خطيب يُسمع تونس مثل هذه اللهجة - الجرأة - على منبر عمومي تحضره طبقات مختلفة من الثقافات والمدارك المتباينة وصارح الحضور بنقد الأدب العربي.
وكان الفصل الأول من الكتاب عن الخيال. نشأته في الفكر البشري وانقسامه، وقد ذكر صاحب الكتاب أنه تلبية لطلب من جمعية قدماء الصادقية، وقد صادف من نفسه هوى نازعته إليه، ومما جاء فيه رأيه في الخيال فتحدث عن ثلاث نقاط:
أولاها: كان الخيال للإنسان ضرورياً كالنور والهواء والماء والسماء، ضروري لروح الإنسان ولقلبه ولعقله ولشعوره وان هذا الخيال نشأ في النفس بحكم هذا العالم الذي عاش فيه الإنسان وبدافع الطبع والغريزة وما دام هو كذلك فهو حي خالد.
أما الثانية: تحدث فيها عن الخيال عند الإنسان الأول واستعمالاته، بعيداً عن المجاز. وضرب لذلك أمثلة كقولهم: «ماتت الريح» أو «أقبل الليل» ووضح كلامه عن هذه المسألة بأن الإنسان الأول كان يعتقد أن الريح ماتت فعلاً وأن الليل قد أقبل حقاً بألف قدم وألف جناح وهذا ما جاء في أساطير الأولين بأنهم كانوا يؤمنون بألوهية الريح والليل.
أما النقطة الثالثة: فقد قسم فيها الخيال إلى قسمين:
قسم اتخذه الإنسان ليتفهم به مظاهر الكون وتعابير الحياة، وقسم اتخذه لإظهار ما في نفسه من معنى، ومن هذا القسم تولد قسم آخر ولدته الحضارة في النفوس وارتقاء الإنسان وهذا ما سماه الخيال اللفظي الذي يراد به تجميل العبارة. لكن القسم الأول في رأيه هو الأقدم نشوءاً في النفس.
وقد وضح رأيه بأن الإنسان شاعر بطبعه لأنه يهتاج عند المنظر الساحر والمشهد الخلاب، وإن كان ذلك يتفاوت بين الناس بتفاوت إدراك الجمال والشعور به. وقدم أمثلة ببعض الكلمات على غريزة الإنسان في ذلك لتكون دليلاً على حديثه، لأن الخيال في نظره يعتبر حقيقة في بدايته ثم تطورت النظرة إليه بتطور النظرة إلى الحياة.
ثم أصبح الإنسان بحاجة إليه لأنه وإن احتكم إلى العقل فإنه يحتكم إلى الشعور وسيظل كذلك لأن الشعور هو العنصر الأول من عناصر النفس، فهو النهر الجميل المتدفق في صدر الإنسانية منذ القدم. ومن هذا النهر تتولد خرائد الفكر وبنات الخيال كما نشأت «فينيس» من أمواج البحار وعلى ضفافيه يرتلن للبشر ترانيم الحياة.
وكذلك فإن اللغة بحاجة إليه مهما قويت، لأنها لن تستطيع النهوض دون الخيال الذي يرهقها به الإنسان، وأنه يمد هذه اللغة بالقوة التي ما كانت تجدها لولاه. ومن وراء الخيال نلمح فلسفة الفكر وهدير الحياة، وهو الذي تندمج فيه الفلسفة بالشعر ويزدوج فيه الفكر بالخيال، ومنه ألفت فيه كتب البلاغة على اختلافها وهذا ما سماه (بالخيال الفني) الذي تنطبع فيه النظرة الفنية التي يلقيها الإنسان على العالم الكبير، وكذلك هناك ما سماه (الخيال الشعري) لأنه يضرب بجذوره إلى أبعد غور في صميم الشعور. ثم هناك ما سماه (الخيال الصناعي) لأنه ضرب من الصناعات اللفظية وهذا ما سماه (الخيال المجازي).