كتاب " سؤال الهوية الكردية " ، تأليف عبد الكريم يحيى الزيباري ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب سؤال الهوية الكردية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

سؤال الهوية الكردية
وبحسب مونتين (إنَّ كل فرد في حدِّ ذاتهِ يحمل شكلَ الوضع البشري برمته) (6). لأنَّهُ قبل أنْ تكون له هويَّـة هو إنسان، سُمُوُّهُ في إنسانيتهِ، ولذلك قال تعالى {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا } المائدة: 32. فَمَنْ يستَحِلُّ قتل الإنسان، يستحِلُّ قتل الجميع، لأنَّـهُ ينكرُ الشَّرع، ويرى نفسه إلهاً فوق القانون، كقول النمرود: (أنا أحيي وأميت). لم يقل تعالى مَـن قتلَ مؤمناً أو مسلماً، ولم يحدِّد هوية للقتيل، بل قالَ نفساً، إنساناً، بل يَحرُمُ قتل أرنبٍ أو طائرٍ دونما سبب، ومن قتل حيواناً خطأً، تقع عليه صدقة يدفعها كفَّارةً عن قتلهِ الخطأ. لكن ليس في أنواع القتل كافة: سفكٌ للدماء، فالغني يقتل الفقراء باستغلالهم، ووعاظ السلاطين يقتلون المئات بتضليلهم، يُقْتَلُ الآخر بسبب اختلاف لونه أو لغته أو هويته، وهذه العنصرية في ازدياد مستمر، الثري يقسو على الفقراء لأنَّهم فقراء، والمؤمن ينظر إلى غيره باحتقار، بينما الغنيُّ بالإيمان عليهِ أنْ يراعي الفقر الإيماني لدى الآخرين، وكذلك الغنيُّ بالمال أو بالسلطة، أو بالعلم والمعرفة. لكن المتطرفين يقفون على النقيض تماماً، و(ليس هناك بشرٌ أسوأ من الذين يتبجّحون دائماً بهويِّتهم. فهؤلاء المتعصبون لا يعتقدون ـ أنَّهم على صواب ـ فَحَسْب، بل إنَّهم مُسْتَعِدُّون دائماً لحفرِ قبرٍ تحت أقدام من لا يصدِّقُهُمْ، وَمَنْ يُنَبِّههُمْ إلى أخطائهم) (7). الذين يتبجَّحون بهويتهم هم أعينهم الذين يتبجَّحون بثقافتهم، أو أموالهم، أو مناصبهم، أو منزلتهم لدى السلطان.
وكانت الحقوق والحريات في القانون الأساس لسنة 1925 ضئيلة إلى حدٍّ ما، فلم يرد أيُّ ذكرٍ للشعب الكردي، ولا لغيره من الاثنيات، ونصت المادة الثامنة (العراقيون متساوون في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية وفي ما عليهم من الواجبات والتكاليف العامة. لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الأصل أو اللغة أو الدين وإليهم وحدهم يعهد بالوظائف العامة مدنية كانت أو عسكرية ولا يولى الأجانب هذه الوظائف إلا في أحوال استثنائية يعينها القانون). ووفق قانون آخر قسموا العراقيين إلى تبعيات عثمانية وفارسية، ومنحوا الوظائف العامة إلى الوافدين من سوريا ومصر والجزيرة العربية، ثمَّ صدرَ دستور العراق المؤقت في 27/07/1958، ونصت المادة الثالثة منه (يقوم الكيان العراقي على أساس من التعاون بين المواطنين كافة باحترام حقوقهم وصيانة حرياتهم ويعتبر العرب والأكراد شركاء في هذا الوطن ويقر هذا الدستور حقوقهم القومية ضمن الوحدة العراقية). فازدهرت الثقافة الكردية لثلاث سنوات فقط، ثمَّ صدر دستور العراق 29/04/1964 لتنص المادة 19 منه على (العراقيون لدى القانون سواء وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين ويتعاون المواطنون كافة في الحفاظ على كيان هذا الوطن بما فيهم العرب والأكراد ويقر هذا الدستور حقوقهم القومية ضمن الوحدة العراقية) فعين للكرد واجب الحفاظ على كيان الوطن، ولم يمنحهم أيَّة حقوق. ونصَّ دستور العراق المؤقت 16/07/1970 في الفقرة ب من المادة الخامسة (يتكون الشعب العراقي من قوميتين رئيسيتين، هما القومية العربية والقومية الكردية ويقر هذا الدستور حقوق الشعب الكردي القومية والحقوق المشروعة للأقليات كافة ضمن الوحدة العراقية). وفي الفقرة ب من المادة السابعة (تكون اللغة الكردية اللغة الرسمية إلى جانب اللغة العربية في المنطقة الكردية). فانتشرت النزعة القومية المحلية الإقليمية الكردية.
واليوم تمرُّ الهوية الكردية بمرحلة انتقالية خطيرة، بعد معاناة عدة قرون، مدن كردستان الثلاث (أربيل، السليمانية، دهوك) بعد 2003 خصوصاً، مرت بمراحل نمو سريعة جداً، على نحو قفزات، وكلما تتسع المدن، تبتعد عن جذورها التاريخية وممارساتها وتقاليدها الاجتماعية، وتزداد تبعيتها الاقتصادية، حيث تعتمد في تأمين مفردات استهلاكها اليومي على دول الجوار: تركيا، إيران، سوريا، هذه التبعية عينها هي التي عانتها أثينا في أوج حضارتها، قبل السقوط، وروما من بعدها، وبغداد المستعصم، كانت هذه المدن تستورد كلَّ شيء، مجرد سوق استهلاكية، حتى لم يعد بمقدورها دفع رواتب موظفيها من الشرطة والجيش وموظفي البلاط، حتى أنَّ فكرة المجتمع المحلي الكردي، لم تعد أكثر من فكرة جغرافية بحتة، لم يعد أحدٌ يهتم أو يلاحظ فقدان المودة، وانتشار التشدد إلى حدٍّ ما.
ونقلة من غريزة حب البقاء، إلى غريزة حب النمو والتطور، ثم نقلة بعد نقلة وفجأةً لم نعد نعرف ماذا نريد؟ وإلى أين نحن سائرون؟ ولا نكادُ نعرف ماذا لدينا؟ ماذا نملك؟ وماذا يملكون؟ وماذا ينقصنا؟ خصوصاً والظروف الخارجية من حولنا مضطربة، وبإزائها اضطربَتْ الرؤى والطموحات، مقابل ذكريات ثابتة عن حجم المعاناة التي ما زالوا يُبْدُوْنَ قلقاً صريحاً وواضحاً بشأن إمكانية تكرارها، حالة الاضطراب هذه، أشفقَ منها أدونيس فوقفَ في 16 نيسان 2009 أمام رفات الضحايا في مقبرة حلبجة وقال: (أجبرتني ذكرى مجزرة حلبجة علىالبكاء، أنا الذي لا أبكي، وهذه إحدى سيئاتي الكثيرة، ولكن لا تفسحوا المجال لهذه الذكرى الأليمة أن تفسد عليكم حياتكم) (8). يبدو أنَّ شيئاً لا يفسد الحياة كما تفعل الذكريات الأليمة التي لا تُنسى.