كتاب " ليتوال 2010 " ، تأليف وليد الرجيب ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب ليتوال 2010
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ليتوال 2010
شخصية مكتفية بذاتها، تحتوي على نسغ الحياة، كالشجرة القديمة الشاهدة على الزمن، كالمبنى التاريخي الذي يحكي بصمت، كالحكيم الصامت الذي مل من التفسير والتوضيح، وترك الآخرين ليكتشفوا الحياة بأنفسهم، شخص يكفي وجوده، ولا يحتاج إلى التعريف بنفسه.
رفع رأسه، وانتبه لتحديقي به، فابتسم وهز رأسه هزة خفيفة، محيياً بتهذيب، فارتبكت وخجلت، كربكة الطالب الذي يكشف لحظة غشه من ورقة امتحان زميله، ابتسمت بدوري، دون إعطاء أي انطباع، وكأن عيني التقتا صدفة بعينيه، وعدت أنظر إلى الجريدة، دون أن أقرأ حرفاً، لكنني أحسست بوهج حرارة في وجنتي، وأدركت أنهما محمران في هذه اللحظة.
وبعد فترة، نهض وأخرج محفظة نقوده من جيب بنطلونه الخلفي، وسمعت رنين القطع المعدنية على الطاولة، نظرت إليه ولا أعلم هل بان الأسى في عيني، وفجأة التفت إلي وابتسم محيياً مرة أخرى، لبس الجاكيت وغادر.
وتبعته بعيني من خلف زجاج الكافيه، ومن خلف الكتابة بالأحمر على الزجاج، وكان شاله وخصلات شعره يرفرفان مع الهواء، قلص رقبته اتقاء للهواء البارد واختفى.
* * *
لعنت اللحظة لانتهاء المشهد دون أن أشبع منه، نهضت سريعاً وكأني أود اللحاق به، ووضعت شالي على رقبتي، ووضعت ورقة نقدية تحت فنجان القهوة، كما هي عادتي، ولم أرد على النادل الذي قال:
- Au revoir(6)
رن الجرس الصغير المعلق على الباب الزجاجي، عندما أقفلته خلفي، وأحكمت لف شالي حول رقبتي، وثبت البريه الأحمر على رأسي، وأنا أبحث في ظهور الرجال عن جاكيت بيج، دسست كفي في جيبي البالطو الذي يصل إلى ركبتي، وأسرعت الخطى.
رغم أن الجو كان مشمساً، إلا أن عابري الطريق، كانوا يرفعون ياقاتهم، ويمسكون بمظلات تحسباً لمطر محتمل، أعلنت عنه نشرة أخبار الطقس، التي نادراً ما تخطئ في توقعاتها، لكن السماء والأجواء تتصرف أحياناً بعناد وبغير توقع، مخيبةً تنبؤات المتنبئين الجويين.
كنت أشرئب بعنقي بحثاً عنه، فلا أنتبه إلى أكتاف الناس التي كنت أصطدم بها، فأعتذر:
- Pardon(7)
لم أكن أعلم لم أبحث عنه، أو ماذا أريد منه، لكنني شعرت بأن لهذا الإنسان علاقة بحياتي، وكأنه شيء كنت أبحث عنه منذ أزمان، كان كالنبوءة التي كادت تتحقق، كالفراشة الملونة التي طارت من كفي المفتوحة، كالماء العذب الذي تسرب من بين أصابعي، ولم يروِ عطشي، كنبض القلب الذي بدأ يخفت ويتلاشي، كحلم الطفولة الذي تبدد كالغيم مع الريح، اختفى.
كان لهاثي يزداد، وأنا أسرع الخطو كمن يخشى أن يفوته القطار، كانت أنفاسي الحارة التي تخرج من فمي المفتوح، تتكثف بخاراً أبيض يسير عكس اتجاهي، كدخان سفينة بخارية تصارع أمواج المحيط الساخط.
ندمت لارتدائي حذاء بكعب عال هذا اليوم، لم يكن خياراً موفقاً، اخترته فقط لأن لونه يناسب البريه الأحمر البرغندي على رأسي، ولون الشال الصوف على رقبتي، لكنني في العادة، كنت أنتعل حذاءً رياضياً لمشاوير النهار، وأترك الكعب العالي لمناسبات المساء، لم يكن اختياري لهذا اليوم موفقاً.
لكن ما أدراني أنني سأخوض ماراثوناً، لم أعرف ماذا ينتظرني هذا اليوم، كنت أخطط لإيجاد كافيه منزوي، أو بقعة شمس في الحديقة الخلفية لكاتدرائية نوتر دام، لأقرأ فيها رواية ممتعة، وأقضي نهاراً هادئاً، انتظاراً لسهرة المساء في أحد المسارح، كنت أخطط لهدوء واسترخاء، ولم أخطط لتوتر ولهاث، كنت أريد إيقاعاً بطيئاً كسولاً لهذا النهار، ولم أرغب في دقات قلب سريعة، وحموضة في المعدة، وحبات عرق غير مرئية عند منابت شعري، مثلما يحدث معي في المطارات، حيث كل شيء على عجل، أعلق حقيبة يدي على كتفي، وأجر أخرى على عجلات صغيرة، وأمسك بجواز سفري، وأنا ابحث عن بوابة المغادرة، ورغم التوتر وحموضة المعدة، كنت أستعين بعلكة، أمضغها بقوة وسرعة، وأحول توتري إلى فكي، وما إن أجلس متهالكة على كرسي الطيارة، حتى أشعر بحجم الجهد والتوتر اللذين بذلتهما، في هذا العمر، وتجنباً لكل هذا التوتر، أذهب إلى المطارات مبكراً، وقبل موعد الطائرة بساعات، مما يتيح لي المجال لأهدأ بدنياً وذهنياً.
كان ناظري يتسلقان فوق الأكتاف، كنت أريد أن أرى ما وراء الجموع الذاهبة والقادمة، كان ناظري يبحثان عن جاكيت بيج، واختفى صوت كعبي السريعين على الرصيف المكتظ بالناس، والأزهار واللافتات ومظلات الكافيهات المخططة بالأبيض والأخضر، أو بالأبيض والبرتقالي أو الأحمر.
اقتربت في شبه عدو، من صوت أوكورديون، يعزف عليه رجل غجري بكرش، يضع على رأسه كاسكيت صوف، ولا أعرف كيف تبينت موسيقى أغنية بياف padam padam، وكيف انتبهت لحمالات البنطلون المعلقة على كتفيه، اقتربت منه فارتفع صوت الأوكورديون، وابتعدت عنه فخفت الصوت، ثم مررت بصوت عجوز ظهرها منحني، تجادل بائع خضار، حتى اختفى الصوت، ثم مررت على رجلين بشعريهما الأشيبين، يجلسان على طاولة صغيرة مستديرة، يتناقشان في السياسة بصوت عال، وأمامهما كأسا بيرة كبيرتان، اقتربت منهما فارتفعت الأصوات، وابتعدت عنهما فخفتت وتلاشت الأصوات.
لا أعرف إن كنت قد تعمدت الاستماع، أم جاءت كل تلك المشاهد والأصوات، كخلفية ذهنية ونفسية تصويرية لشعوري، شعرت بسخونة في جسدي، وأحسست ببلل خفيف تحت ابطي، وبتعب وشد في ربلتي ساقي.
أين ذهب؟ هل سرت في الاتجاه المعاكس؟ ولكنني رأيته يخرج من الكافيه، ويسير في هذا الاتجاه، فهل دخل إلى أحد المحلات التي مررت بها؟ لكني لم أكن أريد التوقف وتضييع الفرصة، ولكن فرصة لماذا؟ هل فقط لأراه؟ ثم ماذا؟
نحيت التساؤلات التي بدأت تبطئ خطواتي، وتبعت حدسي، رغبتي الغامضة التي لا تفسير لها، لا أريد لأي منطق أن يحبطني، لا أريد لأي تفسير أن يضعف طاقتي التي تشبه طاقة الرقص، متعب لكنه يملأ الإنسان بقوة شعورية وروحية هائلة، مثل رقص الإنسان البدائي، الذي يستلقي بعده سابحاً بالعرق، يركض قلبه كحصان بري، يرتفع وينخفض صدره، كبركان يتهيأ للانفجار، ويشعر بعدها أنه تطهر من شياطين الحياة التي لا يفهمها، إلا ببساطة البداءة.
لكن لبدني الأربعيني قدرة محدودة، وازداد شد وألم ربلتي ساقي، وأصبحت أنفاسي قصيرة وضحلة، وتباطأت خطواتي رغماً عني، وزادني الإحباط ضعفاً، ففي بداية الماراثون، عندما كان لدي أمل أسعى خلفه، كانت طاقتي طاقة شابة في العشرين، وعندما غادر الأمل، كبرت ثلاثين عاماً.
أصبحت خطواتي أبطأ وأبطأ، وبدأت أسمع صوت كعبي على الرصيف، يصبح صوت جر وسحب، وليس صوت خطوات واثقة، وبدأت أشعر بألم أصابع قدمي المضغوطة في مقدمتي الحذاء، وشيء يشبه الذبذبات والأزيز الكهربائي في ساقي، وشعرت بسخونة وجهي ورأسي.
توقفت، وانحنيت مستندة بكفي الى ركبتي، وأنا ألهث دخاناً أبيض، ولاحظت دخاناً أبيض آخر يخرج من فتحة غطاء مجاري، كدخان قطار بخاري توقف في المحطة النهائية، وفجأة سمعت نداءً:
- تاكسي.
رفعت رأسي بينما ظلت كفاي على ركبتي، فإذا بجاكيت بيج، يدلف في سيارة أجرة.