ينطلق هذا الكتاب من فكرة بسيطة: سرد قصة الحروب الصليبية كما نَظَر إليها وعاشها وروى تفاصيلها في «المعسكر الآخر»، أي في الجانب العربي. ويعتمد محتواه بشكل حصريّ تقريباً على شهادات المؤرخين والاخباريين العرب في تلك الحقبة.
أنت هنا
قراءة كتاب الحروب الصليبية كما رآها العرب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

الحروب الصليبية كما رآها العرب
تمهيد
بغداد، آب/أغسطس 1099م.
دخل القاضي أبو سعد الهروي ديوان الخليفة المستظهر بالله الفسيحَ صائحاً حاسراً حليق الرأس علامة على الحداد، وفي أثره حشد من الرفاق شبّاناً وشيباً يصدقون بصخب على كل كلمة من كلماته ويُبدون مثله للعيان منظراً يشوبه التحدّي: لحية كثّة تحت رأس حاسر أملس. ويحاول بعض وجهاء البلاد تهدئته ولكنه يُزيحهم بحركة تنمّ عن ازدراء ويتقدّم بعزم وتصميم إلى وسط القاعة فيأخذ في تبكيت الحاضرين من غير اكتراث مناصبهم بكلام لاذع كالذي يستخدمه الواعظ على المنبر:
ـ أتجرؤون على التهويم في ظل أمن رغد وعيش ناعم شأن زهرة في خميلة وإخوانكم في الشام لا مأوى لهم سوى ظهور الجمال وبطون النسور والعقبان؟ كم من دماء سفكت! وكم من نساء أخفين وجوههن بأيديهن حياءً وخجلاً! أيرضى العرب البواسل بالمهانة ويقبل الأعاجم الشجعان بالذل؟! (1)
ويقول الأخباريون العرب: «وكان خطاباً أبكى العيون وحرّك القلوب» (2). وانتاب الحضورَ جميعاً نشيجٌ ونحيب، ولكنّ الهروي لا يريد شيئاً من دموعهم فيقول لهم:
ـ إن أسوأ ما يلجأ إليه المرء من سلاح أن يسكب الدمع بينما تُذكي السيوفُ نارَ الحرب.
وإذا كان قد سافر من دمشق إلى بغداد طوال ثلاثة أسابيع من أيام الصيف تحت أشعة الشمس المحرقة فما كان ذلك لاستدرار الشفقة، وإنما لإخطار أرفع السلطات الإسلامية بالمصيبة التي حاقت بالمؤمنين والطلب إليها أن تتدخل بلا إبطاء لوقف المجزرة. وردّد الهروي قائلاً: «لم يسبق قطّ أن أُذِلّ المسلمون هذا الإذلال ولا أن نهبت بلادهم بمثل هذه الوحشية». لقد كان كل من معه من رجال قد فرّوا من المدن التي نهبها الغازي؛ وكان بعضهم من القلّة الناجية من أهل بيت المقدس. وقد اصطحبهم ليتيح لهم أن ينقلوا بأنفسهم وقائع المأساة التي عاشوا فصولها قبل شهر.
والحقيقة أن الفرنج كانوا قد استولوا على المدينة المقدّسة يوم الجمعة في 22 من شهر شعبان من عام 492هـ (15 تموز/يوليه 1099م) بعد حصار دام أربعين يوماً. ولا يزال النازحون يرتجفون كلما تحدّثوا بذلك وتجمد أبصارهم وكأنهم لا يزالون يرون بأعينهم أولئك المقاتلين الشّقر المدرّعين المعتمرين الخُوَذ وقد انتشروا في الشوارع شاهرين سيوفهم، ذابحين الرجال والنساء والأطفال، ناهبين البيوت، مخرّبين المساجد.
وعندما توقّفت المذبحة بعد يومين لم يكن قد بقي مسلم واحد داخل الأسوار. فقد انتهز بعضهم فرصة الهَرْج فانسلّوا إلى الخارج من الأبواب التي كان المحاصرون قد خلعوها. وأما الآخرون فكانوا مطروحين بالآلاف في مناقع الدم عند أعتاب مساكنهم أو بجوار المساجد، وكان بينهم عدد كبير من الأئمة والعلماء والزهّاد المتصوّفين الذين كانوا قد غادروا بلادهم وجاءوا يقضون بقيّة أيامهم في عزلة ورعة في هذه الأماكن المقدّسة. ولقد أُكره من بقوا على قيد الحياة على القيام بأشقّ الأعمال: أن يحملوا جثث ذويهم فوق ظهورهم ويكدّسوها بلا قبور في الأراضي البور ثم يحرقوها قبل أن يُذبحوا بدورهم أو يباعوا في أسواق النخاسة.
وكان مصير يهود القدس بمثل فظاعة مصير المسلمين. ففي الساعات الأولى من المعركة اشترك عدد كبير منهم في الدفاع عن حيّهم، الحيّ اليهودي القائم شمالي المدينة. ولكن عندما انهارت بقية السور المشرف على منازلهم وأخذ الفرسان الشقر يجتاحون الشوارع جنّ جنون اليهود واجتمعت الطائفة بأسرها للصلاة في الكنيس الرئيسي محتذية بذلك حذو جدودها في أوقات المحن. وعندها سدّ الفرنج جميع المنافذ وكدّسوا أكوام الحطب حول المكان وأضرموا فيها النار. ولقد أُجهِز على الذين حاولوا الخروج إلى الأزقّة المجاورة واحترق الباقون أحياء.
وبعد أيام على النكبة وصل أول اللاجئين من فلسطين إلى دمشق حاملين بعناية فائقة المصحف العثماني، أحد أقدم نسخ الكتاب المبين. واقترب الناجون من أهل القدس بدورهم من عاصمة الشام، وإذ لمحوا من بعيد مآذن المسجد الأموي الثلاث التي لاحت فوق الحرم المربّع بسطوا سجاجيد الصلاة وسجدوا شكراً للعليّ القدير الذي أطال أعمارهم وقد ظنّوا أنها بلغت آجالها. واستقبل أبو سعد الهروي بوصفه قاضي قضاة دمشق اللاجئين بحفاوة بالغة. وكان هذا القاضي، وهو من أصل أفغاني، أكثر شخصيات المدينة تمتّعاً بالاجلال والاحترام،؛ وقد بذل للفلسطينيين النصح والعزاء، فما كان ينبغي في رأيه أن يخجل المسلم من الفرار من منزله. ألم يكن النبي محمد نفسه أول مهاجر في الإسلام إذ اضطرّ إلى ترك مسقط رأسه مكة التي ناصبه أهلها العداء واللجوء إلى المدينة المنوّرة التي تقبّل أهلها الدين الجديد أحسن قبول؟ ألم ينطلق من مهجره هذا للجهاد من أجل تحرير موطنه من الوثنية؟ وعلى المهاجرين أن يعلموا علم اليقين أنهم خير المجاهدين، وأن الإسلام أكرمهم بجعله هجرة الرسول مبدأ العصر الإسلامي.