ما هي هذه المواطنية التي لم نُنجزها بعد في وطننا؟ وإلى أي حد يساهم طغيان مظاهر التبعية السياسية - الدينية والفروقات الاجتماعية في أكثرية الميادين في تربية مواطني المستقبل وطرائق تنشئتهم على القيم الاجتماعية المشتركة؟
قراءة كتاب وطن بلا مواطنين
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
المقدمة
في التاريخ، ثمة تواريخ للأحداث الماضية، وأحداث مرتقبة، تبحث لها عن تواريخ في المستقبل... وفق هذه النظرية التي تبناها بعض المفكرين السياسيين والباحثين في الاقتصاد السياسي الدولي، أصبح معنى التاريخ منوطاً إما بانتهاء الفروق بين الطبقات (ماركس، 1973) أو بحلول أوان استقرار النظم الليبرالية الغربية (هيغل، 1961) أو بتعميم قيم الديموقراطية الغربية في كل أرجاء الأرض (فوكوياما، 1992)... وتبقى جائزةً كلُ الأسئلة والأبحاث والمقابلات، التي تستفسر عن التاريخ بما يُخبئه للمستقبل أكثر مما يرويه عن الماضي. فيصبح إذ ذاك، تاريخ البشرية جمعاء كتاريخ جماعةٍ بشرية محددة...
نحن، في لبنان، لنا تاريخٌ لا يزال ينتظر... ينتظر منجزاتٍ ضرورية شتى، قد يكون أهمها إرساء دور المواطن في الدولة، كما هو الحال في كل الديموقراطيات الغربية الحديثة. لقد نشأت دولة لبنان الكبير، ككيان سياسي منذ العام 1920، عندما اكتملت جغرافية لبنان - الموطن، كما نعرفه اليوم، بسهوله وجباله، وشماله وجنوبه ومدنه وقراه (بالرغم من مناوءة القوميين الذين كانوا ينادون بالإندماج بــــ"سوريا الكبرى" الفاقدة بذلك جزءاً من واجهتها البحرية ومتنفساً مهماً). وتوالت الأحداث، مروراً بعام 1943، تاريخ إعلان استقلال الدولة عن سلطة الانتداب ليكتمل السياق المفضي إلى وجود لبنان - الوطن، وتوافر ظروف نشوء الدولة فيه إلى حد ما. بيد أن كماً من الأحداث التي طرأت فيما بعد، تشير إلى تعثر، لا بل تعثراتٍ على أكثر من صعيد. فلا التوازنات السياسية جعلت وطننا متوازناً عبر المراحل التي مضت، ولا ثقافتنا جعلت مجتمعنا متماسكاً أمام التحديات، ولا ممارساتنا المختلفة أدت بنا إلى انتظام حياتنا وعلاقاتنا في ما بيننا ومع الدولة.
لنا، في لبنان، قراءاتٌ لحقباتٍ من تاريخنا، مختلفةٌ في ما بينها حتى حدود التنافر، وآراءٌ والتزاماتٌ سياسيةٌ متضاربة أدت بنا إلى الاقتتال تلو الاقتتال، وعاداتٌ اجتماعية وتقاليد دينية تقيدنا وتمنعنا من الإختلاط بالآخر. فــــ"نتعايش سوياً" ولا نعيش معاً (بالإشارة على سبيل المثال إلى الزواج بين أبناء الطوائف المتعددة الذي تمنعه، في أكثر من حالة، الطوائف المُمسكة بالأحوال الشخصية في لبنان حتى اليوم)... لنا أيضاً ثقافة ٌ لا تُعلي اهتماماً للشأن العام حتى يكاد يُنعت بالمغفل كل من يُطبق القوانين في السير على الطرقات أو في الدوائر والمؤسسات العامة أو خلال الامتحانات الرسمية... وكل من ليس مغفلاً بهذا المعنى يصبح شاطراً وذكياً... وبالتوازي مع هذه الإخفاقات، تتزايد الأزمات السياسية التي يستحيل حلها إلا بانفجارها أو بتدخلاتٍ أجنبية. وتتقهقر ثقافتنا المواطنية على أكثر من صعيد ويصبح مجتمعنا عاجزاً وبعيداً عن ناجز الحضارات.
لبنان وطنٌ يجمع الطوائف والمذاهب وتشريعاتها ومصالحها الخاصة المتضاربة مع المصلحة العامة، في السياسة والتربية والصحة والشؤون الاجتماعية. فأين نحن من الوطن الذي يجمع مواطنين، لا الطوائف والمذاهب؟ هل نحن، في لبنان، وطنٌ بلا مواطنين...؟ إن السعي لاكتمال المواطنية وبناء الثقافة المواطنية المرتبطة بها، هو شرط نجاح استكمال بناء الوطن. وبالعكس، تظهر الأسئلة الحادة حول المواطنية والثقافة المواطنية والتربية عليها، كلما تعثرت خطوات بناء الدولة أو واجهت المجتمع، على صعيدٍ ما وفي زمانٍ ما، تحدياتٌ شتى لوجوده ولديمومة الصيغة التي يقوم عليها. إن نشوء الدولة في لبنان لم يتزامن ولم يتبعه، حتى الآن على الأقل، اكتمال صيغة المواطنية بكل أبعادها وإحقاق دور المواطن في الدولة وفي المجتمع.
فما هي هذه المواطنية التي لم نُنجزها بعد في وطننا؟ وإلى أي حد يساهم طغيان مظاهر التبعية السياسية - الدينية والفروقات الاجتماعية في أكثرية الميادين في تربية مواطني المستقبل وطرائق تنشئتهم على القيم الاجتماعية المشتركة؟ ماذا نحمل في صيغة عيشنا من مظاهر وممارسات تعودناها وهي مناقضة لمفهوم المواطنية وتمنع إحقاقها؟
في هذا الكتاب أربعة أبواب:
يتناول الباب الأول البحث في مفهوم المواطنية مع إظهار التطور في المضامين وآليات التطبيق تبعاً لتغير الحقبات التاريخية وظروفها وصولاً إلى أدبياتنا المعاصرة.
ويعرض الباب الثاني، إمكانيات أن تكون المواطنية قابلةً للتعلم وما تثيره التربية على المواطنية من إشكاليات وما تتطلبه من ظروف للنجاح، ضمن هوامش محددة. كما نبحث في إمكانيات تعليم المواطنية في المدرسة من خلال النظر إلى التربية على المواطنية وارتباط هذه الأخيرة بتطور مفهوم المواطنية عبر التاريخ. وصولاً إلى الزمن الراهن حيث أصبحت فعالية المدرسة في تنافس مع العائلة والإعلام وعوامل اجتماعية أخرى، لكل منها حدود يجب السؤال عنها من أجل فهمٍ أعمق للموضوع.
وفي الباب الثالث، نتناول عدم نضوج مفهوم المواطنية في لبنان وعدم اكتمال وعي المواطن للثقافة المواطنية. كما نعرض مقارباتٍ عديدة لمفهوم المواطنية لا يزال اللبنانيون منقسمين بشأنها. ونستنتج بعض وجوه ومظاهر أزمة المواطنية في المجتمع التعددي اللبناني عبر دور عوامل اجتماعية عديدة ومنها المدرسة ومساهماتها في صياغة شعور الانتماء الجماعي لدى اللبنانيين وتكوين الثقافة المواطنية لديهم.
وينتهي البحث، في الباب الرابع، باقتراح توصيات منطلقة من أهم النقاط التي عالجناها وما تؤدي إليه على صعيد تبني مشروع علماني شامل كطوق نجاة للمواطنية وبناء الدولة في لبنان.
علي خليفة بيروت 2008