هذا الكتاب "لبنان من دويلات فينيقيا إلى فيدرالية الطوائف - الجزء الثالث"، مثل هذه الإرهاصات وغيرها، دفعتني للغوص بعمق في التاريخ، علّي أجد لها إجابات، أو مؤشرات قد نعتبر منها.
أنت هنا
قراءة كتاب لبنان من دويلات فينيقيا إلى فيدرالية الطوائف - الجزء الثالث
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
لبنان من دويلات فينيقيا إلى فيدرالية الطوائف - الجزء الثالث
وعلى الصعيد الخارجي، كان لهذا الحادث وقع عظيم ليس في العالم العربي وحده بل في الأوساط الدولية ولا سيما الانكليزية والأمريكية، فردد (تشرشل) في مذكراته: «ما لهؤلاء الفرنسيين بينما يستعبدهم العدو إذا بهم يحاولون استعباد غيرهم»! وطلب تشرشل من ديغول إطلاق سراح المعتقلين وتبديل هللو. وتحرك سبيرز أيضاً ووجه البريطانيون إنذاراً بإطلاق سراح المعتقلين قبل 22/11/1943. كما وجه عميد السلك الدبلوماسي في بيروت (سفير العراق) مذكرة احتجاج شديدة إلى هللو. ولكن برقية فاروق ثم احتجاج النحاس لدى ديغول كان لهما أثر أعمق في نفوس اللبنانيين والعرب عموماً.
ومن تعليق ليوسف السودا على تلك الأحداث، نعرف حجم الإجرام الاستعماري، عندما يتعلق الأمر بالمصالح الاستعمارية للدول التي تدعي القيم الحضارية، حتى عندما تكون مغلوبة على أمرها! حيث يقول: «.. أرسلت الدبابات تمشي الهوينا على أجساد الأطفال في شوارع طرابلس، تفت عظامهم وتأكل من لحمهم وتشرب من دمهم. كما أرسلت الطيارات والمدافع والرشاشات على صيدا وبيروت وبشامون وأطلقت النار على أحرار البلاد وفتيانها صوناً لأمن وانتصاراً للحرية... إن للهزء حدوداً، وهم منذ ربع جيل يهزأون ولا يتورعون، ألم يحجزوا الوفد اللبناني إلى مؤتمر الصلح في باريس أشهراً وعلى رأسه البطريرك الحويك؟ تارة يسمونه أصناف الإساءات ويتوعدون، وطوراً يمنون بالوعود ويتعهّدون، حتى فازوا أخيراً بطلب الانتداب وهم يقسمون أنه لن يكون في أيديهم إلا مساعدة بريئة لوجه الله وحباً بلبنان وإكراماً لسواد عيون الموارنة أصدقاء الأجيال. وما وطأت أقدامهم أرض بلادنا حتى تكشف الاستعمار والاستعباد... أيها اللبنانيون يريد المستعمرون الدستور ألعوبة والحريات مهازل، يعينون النواب ويشكلون الوزارات ويعدلون الدستور ويفرضون الرؤساء ثم يطيحون بهؤلاء وأولئك على هواهم عابثين... يهولون بالوحدة العربية تبتلع وتقضي على استقلالكم في حين أن الدول العربية المجاورة كانت أول من اعترف باستقلال لبنان التام في حدوده الحاضرة»((35))!
في 16 تشرين الثاني1943 وصل كاترو إلى بيروت موفداً من ديغول في الجزائر بعد أن زوده الجنرال «الحر» بتعليمات للتضامن مع المندوب الفرنسي مهما كان خطأه! - وكان قد مرّ على مصر - وبدأ اتصالاته مع الخوري ثم مع الصلح وحاول التقرب من الخوري على حساب الصلح. ثم اتصل بالبطريرك. وتأكد كاترو أن فرنسا خسرت الكثير من رصيدها بين أصدقائها، فكيف بين معارضيها. وبعد تفاقم الأوضاع، وفي إثر القمع الدموي الذي قام به الجيش الفرنسي، تدخل الجيش البريطاني الثامن الذي كان يرابط في بيروت، فأفرج عن الحكومة في 22/11/1943، وعادت إلى بيروت بعد أن أمضت عشرة أيام في سجن قلعة راشيا.
ولامتصاص الغضب، حل شاتينيو محل هللو، وقد كان يقوم بوظيفة سكرتير في المندوبية. وأعلن كاترو الرجوع عن جميع القرارات التي اتخذها هللو، وقدم اعتراف «اللجنة الوطنية في الجزائر»((36)) بالكيان اللبناني. ووقع المفوض الإنجليزي سبيرس وثيقة استقلال لبنان وسورية. ومع استتباب الأمور، أقيل إميل إده من المجلس النيابي «بسبب قبوله منصب رئاسة دولة من قبل سلطات الانتداب الفرنسي»((37)).
لقد كان التيار السياسي المنتصر في معركة الاستقلال هو تيار لبنان الطائفي القديم الساعي إلى حكم لبنان بدون حماية أو وصاية أجنبية. التبدل الجديد هو التمسك بلبنان الكبير بحدوده الحاضرة لأن لبنان الصغير ليس قابلاً للحياة، وأن العودة إلى لبنان الطائفي الوحيد الجانب أو الثنائي الوجه باتت مستحيلة. البديل إذا هو لبنان المتعدد الطوائف لا لبنان الطائفة الواحدة، لبنان على قاعدة وحدة الطوائف بزعامة الطائفتين الأكثر عدداً تبعاً لإحصاء 1932 المتحجر، لا لبنان الذي تسيطر فيه طائفة واحدة على بقية الطوائف. إن هذه المنطلقات السياسية تجد كامل ركائزها في مقررات مؤتمر بكركي حين وقف البطريرك خطيباً في حفلة الافتتاح ليقول: «نريد مجلساً منتخباً انتخاباً حراً تتمثل فيه الطوائف والمناطق تمثيلاً عادلاً.. إن هذا الصرح ليس وقفاً على الطائفة المارونية فحسب، بل هو بيت جميع اللبنانيين ووقف للمصلحة اللبنانية لا فرق فيها بين طائفة وأخرى.. نريد استقلالاً مبنياً على المساواة بالحقوق تأخذ كل طائفة فيه حقوقها بنسبة أهميتها»((38)).
هكذا انتقلت السلطة والمصالح من الفرنسيين إلى اللبنانيين على النمط الفرنسي الطائفي نفسه، وضمن الحدود التي رسمها الفرنسيون. ورضي المسلمون في عام 1943 بحدود لبنان وهو ما كانوا يرفضونه منذ خلق دولة لبنان الكبير عام 1920. واعتبر يوم إطلاق السجناء (22 تشرين الثاني) عيداً وطنياً للاستقلال. «وهذا الاستقلال ناقص بمفهوم القانون الدولي ولم يكتمل إلا اعتباراً من 31 كانون الثاني 1946 عندما جلت الجيوش الفرنسية» ((39)).
أما الدستور المعدل، الذي يقوم بذاته على فصام أساسي، بحيث يؤكد المساواة السياسية والقانونية والمدنية لجميع اللبنانيين بما هم مواطنون، بقدر ما يؤسس للامساواتهم السياسية والقانونية والمدنية بما هم رعايا («أهلون» حسب النص الدستوري) ينتمون إلى جماعات دينية متراتبة تتوازع حصصاً متفاوتة من السلطة السياسية والوظيفة العامة. بهذا المعنى، لم يغير دستور العام 1943 أي شيء في المواد 9 و10 و95 من الدستور الأصلي للعام 1926. وعليه لم تستطع التعددية الطوائفية أن تحجب «الأسبقية السياسية المارونية»، المتمثلة بالصلاحيات الاستثنائية لرئيس الجمهورية، التي تقارب في مضمونها شكل الملكية المطلقة، بحيث يلاحظ الخبير الدستوري أدمون رباط، أن رئيس الدولة يجسد في شخصه كل حياة الدولة!((40))
في هذا العام (1943) صدرت «مذكرة من الفاتيكان إلى الحكومة الأميركية تجدد معارضة إنشاء دولة يهودية في فلسطين»((41)).