لا شك أن شرقي الأردن آهلة بالسكان منذ أزمنة عريقة في القِدَم، وإن لم يزل قسم كبير من تاريخها القديم مجهولاً. فوفرة الآثار وانتشار بقايا ما قبل التاريخ التي اكتشفها وصوّرها من الجو الجروب كابتن ريز Group Captain Rees V.C., A.D.C...etc.
أنت هنا
قراءة كتاب تاريخ شرق الأردن وقبائلها
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
وفي سنة 680 ق.م ثارت بابل ثانية مستعينة بالبدو، ولكنها أخمدت وهدمت. وفي السنة التالية جرد سنحريب جيشه إلى الصحراء لقتال الملكة تلخنونو انتقاماً منها لمؤازرتها ثورة بابل، فهربت الملكة وقائدها خزعيل إلى يودوما «الجوف الحديثة». لحق بهما الملك وأرغم الملكة على الاستسلام فحملت مع آلهة يودوما إلى نينوى. أما خزعيل رئيس عرب قيدار فقد تمكن من الفرار إلى البادية، ومع هذا فإن هذه الحملة قد برهنت على قوة سنحريب واقتداره على تسيير جيوشه في الصحراء والتغلب على البدو الرحل في معقلهم. لم يجرؤ عرب قيدار على الانقضاض ثانية إبان حكم سنحريب([64]). وقد أخضع سنحريب أدوم أيضاً وأنزل الويلات على مدينتها سلاع «بطرا»([65]).
وهكذا في نهاية حكم سنحريب كانت شرقي الأردن بأسرها خاضعة للنفوذ الآشوري، حتى أن كورش جابر ملك أدوم كان يدفع الإتاوة أيضاً إلى سلفه([66]).
انتهى توسع سنحريب في سنة 681 ق.م عندما ذبحه ولداه، وبعد نزاع بينهما على العرش تسنمه أخوهما أسر حدون.
بعد ما هدَّأ الملك الجديد أحوال مملكته الداخلية ونظم شؤونها سار نحو فلسطين لقمع الثورة التي أشعلها عبدي ملكوتي ملك صيدا. ففتح صيدا وهدمها ثم دعا ملوك فلسطين وشرقي الأردن وقبرص الخاضعين لسلطانه ليجتمعوا وإياه فالذين لبوا هذه الدعوة من شرقي الأردن هم كموش جبرى ملك أدوم، ومصورى ملك مؤاب، وبدوئيل ملك بيت عمون «عمان»([67]).
لما بلغ خزعيل أعمال أسرحدون اشتد رعبه فسار إلى نينوى حاملاً أثمن الهدايا وأنفسها ابتغاء مرضاة الملك الشاب وليأذن له باسترداد الأصنام التي حملها والده من يودوما. فكان له ما أراد، وفضلاً عن هذا، فقد اعترف به أسرحدون ملكاً لقيدار، ولكنه زاد الجزية عليه إلى ألف مينا «وزنة» ذهب وألف حجر ثمين وخمسين جملاً وألف وزنة من البهارات.
لقد نفع هذا التقرب يوتحا في قمع الثورة التي أذكاها عليه أحد قواده يؤابو، والتي آزرها البابليون والمصريون نكاية بأعدائهم الآشوريين. ولكن بعدما ثبت مركزه في بلاده وبسط سلطانه على بدوه، ثار على الآشوريين مراعاة لشعور شعبه المتبرم من التدخل الأجنبي في شؤونهم وأحوالهم. أخمد أسرحدون هذه الثورة بكل سهولة وهرب يوتحا([68]). لم يهاجم هذا الفاتح الجوف لأن الأميرة تابوا بقيت محافظة على ولائها، ولعل إقامتها الطويلة في نينوى عندما كانت في الأسر مع الملكة تلخنونو كانت السبب في ذلك.
بعد هذا الانتصار زحف الملك الآشوري إلى بازو وهازو في البادية([69]) فقتل ثمانية من رؤسائهما وفرّ البقية بأرواحهم منهم ملك يديع ليلا الذي أرسل بعد ذلك كتباً إلى نينوى يقدم طاعته إليها فكافأته على هذا الخضوع بتعيينه جابياً لها في وادي السرحان.
وبعد موت أسرحدون عام 866 ق.م رجع يوتحا وتصالح وخليفته آشور بانبال. لم يدم هذا الصلح طويلاً، بل ثار العرب مدافعين عن حلفائهم البابليين. لم يلتفت الملك لهذه الثورة بادئ ذي بدء، لأنه كان منهمكاً في إعداد العدة ورسم الخطط لفتح مصر، ولكن لما استفحل أمرها في البلاد العربية وأصبحت مواصلاته مع عاصمته مهددة بالانقطاع زحف بالحامية السورية لقمع الثورة، فالتقى بالثوار في بقعة شمالي حمص وفي مؤاب وأدوم وكسرهم شر كسرة وهرب من الموقعة يوتحا والتجأ إلى ناطمو ملك الأنباط([70]). عندئذ نصَّب القيداريون أمولادي رئيساً عليهم، وبينما كان يغزو مملكة مؤاب وقع أسيراً في أيدي ملكها كمشلتا وأرسله إلى نينوى. وبالوقت نفسه ذهب أبيجاد بن طرى أحد رؤساء قيدار إلى نينوى ليحل اختلافاته معها. فعفا عنه الملك وعيّنه رئيساً على قومه شريطة أن يدفع مقداراً من الذهب والأحجار الثمينة والكحل والجمال والحمير جزية إلى الآشوريين.
وما أن حلت سنة 648 ق.م حتى كانت البادية بأسرها خاضعة لسلطان الآشوريين، وبالسنة نفسها سقطت بابل وسلَّم ناطمو ملك الأنباط يوتحا إلى الآشوريين ليتخلص من بطشهم.
لم يرق لقيدار أن يكون رئيسها أبيجاد صنيعة الآشوريين، ولهذا انتخبت عوضاً عنه يوتحا ابن أخي يوتحا الآنف الذكر. ولما علم أبيجاد بما حدث خاف على زعامته أن تفلت من يديه فاتفق ويوتحا للقيام بثورة على الآشوريين وانضم الأنباط إلى هذه الثورة تخوفاً من عداء قيدار.
وبين عامي 640-638 ق.م جرد أشور بانبال جيوشه نحو البادية للمرة التاسعة وتقابل والثوار في عزاليا «الأرجح أنها بجوار تدمر»، وهزمهم ثم أغار على مضارب قيدار فنهبها وأسر امرأة يوتحا ووالدته وأخته وحملهن وأصنام قومهن إلى دمشق.
أما بقية القبائل فقد هربت وتحصنت في البقعة البركانية المعروفة باللجاه، ولما علم الآشوريون بذلك لم يتبعوهم، بل اقتصروا على قطع المياه عنهم ولما نفِدَ ماؤهم ذبحوا إبلهم لشرب المياه الموجودة في جوفها فلم تغن شيئاً، ولما رأى البدو ما حلّ بهم من الويلات والمصائب قبضوا على يوتحا مضرم نار الثورة وسلموه إلى الآشوريين، فأرسلوه إلى نينوى مع بقية الأسرى حيث ربطوه بحبل من فكه وشدوه إلى إحدى أبوابها، وأخيراً عفوا عنه ولكنه لم يعد إلى البادية. وبهذه الصورة تعلم أعداء الآشوريين درساً لم ينسوه قط مدة حياة آشور بانبال.
كان لكثرة الحروب والفتوحات التي قامت بها آشور أثرها الفعال في إنهاك قواها وتوزيعها فدب فيها سوس الفساد، وبدت عليها أمارات الضعف والانحطاط، فما أن حلت سنة 612 ق.م حتى هاجمتها قبائل البادية، والقبائل البابلية ودمرتها، فأصبحت تلك الدولة في خبر كان بذات العصر الذي بلغت فيه أوج العظمة، وأصبحت مدينتها نينوى ركاماً مركوماً وخراباً يباباً كما هي الآن. «نينو العظيمة سقطت سقطت» كانت العبارة التي تناقلتها الألسنة إذ ذاك بكل غبطة وحبور.
وبعد سقوط نينوى بثلاثة أعوام حاول آخر ملك آشوري وهو الذي كان قد التجأ إلى حوران أن يسترجع ملكه الضائع بمؤازرة الجيوش المصرية ولكنه غلب نهائياً، وفني الآشوريون وزال ذكرهم من التاريخ.