كتاب " شعر النازحين من الاندلس الى مصر والشام في القرن السابع الهجري بين التأثر والتأثير " ، تأليف د.آمنة البدوي ، والذي صدر عن دار الأهلية للنشر والتوزيع ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب شعر النازحين من الاندلس الى مصر والشام في القرن السابع الهجري بين التأثر والتأثير
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
شعر النازحين من الاندلس الى مصر والشام في القرن السابع الهجري بين التأثر والتأثير
تستعرض هذه الدراسة بعض رحلات الأندلسيين إلى المشرق، لأهمية ما حملته عن المشرق وظروفه الطبيعية والدينية والاجتماعية والعلمية التي نقلت للأندلسيين سماعاً أو قراءة، وشكلت هذه الظروف عامل جذب، واستعداداً نفسياً للارتحال إلى المشرق، بعد أن استقرت صورته في أذهانهم.
ليس غريباً أن يرنو الأندلسيون بأبصارهم إلى المشرق أرض المنشأ، فالجند الشاميون ظلت قلوبهم متعلقة بالمشرق وببلاد الشام خاصة حتى إن مدن الأندلس حمل بعضها أسماء بلدان المشرق مثل إشبيلية التي سميت حمص، وإلبيرة التي سميت دمشق.
كانت فريضة الحج من أعظم البواعث على سفر الكثيرين من الأندلسيين في كل عام للحجاز، وبعد زيارة الحرمين كان الكثير منهم يقصدون المقامات المباركة كالمسجد الأقصى في القدس، وقبر إبراهيم الخليل، ثم يعرجون على دمشق ومدن أخرى، وفي رجوعهم يقفون بمصر، ثم يتوجهون للفسطاط حيث جامع عمرو بن العاص، وبعدها يقطعون مفازة من برقة إلى طرابلس، ثم إلى تونس فالمغرب.
وكان بعضهم يرتحل إلى المشرق، بقصد الاستطلاع واكتشاف المجهول.
وكثر المرتحلون لتلقي العلم، إذ كان المشرق مركز إشعاع علمي، كما كانت بعض رحلاتهم تجارية أو سفارية.
تتتبع الدراسة بعض هذه الرحلات الأندلسية إلى المشرق، مبرزة ما ورد فيها عن مصر والشام خاصة، من معلومات جغرافية طبيعية، أو وصف للأماكن الدينية والحلقات العلمية، وأحوال الأندلسيين فيهما وأوضاعهم العامة، الأمر الذي ساعد على نزوح أهل الأندلس إلى المشرق.
لعل أشهر المرتحلين من الأندلسيين في أواخر القرن الخامس الهجري، أبو بكر محمد ابن عبدالله بن أحمد بن العربي المعافري قاضي إشبيلية (ت 543هـ)، وكان قد خرج في سن مبكرة بصحبة والده من إشبيلية سنة (485هـ) قاصداً شمال إفريقيا معرجاً على بونة وتونس وسوسة إلى المدن الفلسطينية، وقد سجل أحداث رحلته العلمية الاجتماعية في كتابين، الأول: «ترتيب الرحلة للترغيب في الملة» ولم يعثر إلى الآن على هذا الكتاب، وقد وردت منه نقول في خطبة شواهد الجلة التي نقلها د. حسين مؤنس من مخطوط صوره د. محمد علي مكي من مكتبة القرويين في فاس، يقول ابن العربي عن الخطبة، واصفاً ما جناه من فوائد علمية في المشرق: «لما سبق خيرُ القضاء برحلتي إلى تلك المشاهد الكريمة، وحلولي في تلك المقامات العظيمة، دخلتها والعمرُ في عنفوانه، والغصن مائسٌ بأفنانه ... فَجَنَيْتُ من كلِّ شَجَرٍ زَهرَه، ووعيتُ من كلِّ صِنْفٍ دُرَرَهْ، وكشفتُ عن كل خَفاءٍ غَوْرَه، وافتقرتُ من كلِّ فنٍّ فِقَرَه، حَسْبَما فَسَّرتُه وأوضَحتُه، وشَرَحتُهُ وبيَّنتُه، وقرَّرتُه ونزَّلتُه في كتاب «ترتيب الرحلة للترغيب في الملة»، وذكرت فيه لِقاءَ الأعيانِ لَنا، وسِيَرَ الفُضَلاءِ مَعَنا، ولَحْظِهِم لجانِبِنا بِناظِرِ التَّعظيم، ومُقابَلَتِهِم ورودَنا بالتَّجليلِ والتَّكريم.. وأتبعناهم جُمَلاً من طرائفهم، ونُتفاً من فوائدهم»([1]).
أما كتابه الآخر، فهو «قانون التأويل» الذي عثر عليه د. إحسان عباس ضمن مخطوطة بمكتبة الحاج سليم آغا بأسكدار، تحت رقم 498، ونشره في مجلة أبحاث التي تُصدرها الجامعة الأمريكية في بيروت حيث زار ابن العربي في رحلته كثيراً من المدن المشرقية، مصوراً بعض المشاهد من الحياة العامة، ذاكراً من لقيهم من العلماء من محدثين وفقهاء ومتكلمين في مصر، ثم يذكر توجهه إلى الشام، ودخوله بيت المقدس والتقاءه بجماعة من العلماء واصفاً مجالسهم ومناظراتهم، التي تعكس حركة علمية نشطة في بيت المقدس([2]) وقد طالت إقامته في بيت المقدس، يقضي وقته مصلياً بين باب الأخضر وباب حطَّة([3])، أو يخلو للدرس في جانب من الصخرة التي تسمى المائدة بطور زيتا([4])، وقد وصف أهل القدس بقلة الفضول، مقارناً إياهم بأهل بلده في وصفه محراب داود بقوله: «شاهدت محراب داود عليه السلام ، في بيت المقدس، بناءً عظيماً من حجارة صلدة لا تؤثر فيها المعاول ... ورأيت فيه غَريبَةَ الدَّهر، وذلك أن ثائراً ثار به على واليه وامتنع فيه بالقوت، فحاصره وحاول قتله بالنَشّاب مدة، والبلد على صِغَره مستمرٌّ على حاله، ما أغلقت لهذه الفتنة سوقٌ، ولا سار إليها من العامة بَشَر، ولا برز للحال من المسجد الأقصى مُعْتَكِف، ولا انقَطَعت مُناظرة ولا بَطل تدريس، وإنما كانت العسكرية قد تفرقت فرقتين يقتتلون، وليس عند سائر الناس لذلك حركة، ولو كان بعض هذا في بلادنا، لاضطربت نار الحرب في البعيد والقريب، ولانقطعت المعايش وغلقت الدكاكين، وبطل التعامل، لكثرة فضولنا وقلة فضولهم»([5]).
وقد زار ابن العربي كثيراً من مدن فلسطين وقراها، ونقل بعض صور الحياة العامة فيها، مثل نابلس التي أقام فيها أشهراً ووصف حال نسائها، حيث قال: «ولقد دخلت نيفاً على ألف قرية من بَريَّة، فما رأيتُ أصوَنَ عيالاً ولا أعفَّ نساءً من نساء نابلس التي رمي فيها الخليل عليه السلام بالنار، فإني أقمت فيها أشهراً، فما رأيت امرأة في طريق نهاراً إلا يوم الجمعة، فإنهن كُنَّ يخرجن إليها حتى يمتلئ المسجد منهن، ... وسائر القرى تُرى نساؤها متبرجات بزينة...» ([6]).
ومن المرتحلين أبو عبدالله محمد بن محمد بن عبدالله الإدريسي (493-564هـ) الذي طاف الأندلس وشمالي إفريقيا، ثم رحل لتأدية الحج إلى بيت الله الحرام، فزار مصر والحجاز، مدوناً مشاهداته في رحلته الموسومة بـ «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» مستعيناً بما أفاده من رحلاته الخاصة، وبما قيده من أحاديث الرحالة والتجار والحجاج، مصوراً العلاقة بين بلدان المشرق والأندلس لا سيما مصر والشام([7]).
ويرتحل بنيامين التُطيلي (-569هـ) في النصف الثاني من القرن السادس الهجري إلى الشرق الإسلامي، بدافع الاطلاع الشخصي، مورداً معلومات عن اليهود وواصفاً أحوالهم في كل مدينة زارها، ومتنقلاً بين المدن العامرة، والقرى الزاهرة في سوريا ولبنان، ولا يفوته زيارة أضرحة الصحابة والأتقياء ومقامات الصالحين وينقل بعض القصص والروايات التي سمعها من تجار العرب([8]).
ومن أبرز الرحلات في أواخر القرن السادس وأوائل السابع الهجري رحلة ابن جبير البلنسي الغرناطي (ت 614هـ) الذي ارتحل إلى المشرق ثلاثاً، وحج في كل واحدة منها، حيث ترك غرناطة سنة 578هـ، ثم عاد إلى وطنه سنة 581هـ، وقد نقل ما شاهده في هذه الرحلة من عجائب البلاد، وغرائب المشاهدات، ولما شاع الخبر بفتح بيت المقدس على يد السلطان صلاح الدين الأيوبي، قوي العزم عنده في الارتحال ثانية سنة 585هـ، ثم عاد سنة 587هـ، منقطعاً للحديث والتصوف، ثم رحل ثالثة سنة 614هـ، فوصل مكة وانتقل إلى مصر والإسكندرية، وتوفي في العام نفسه([9]).
وتحوي هذه الرحلة معلومات اقتصادية وبشرية وطبيعية واجتماعية، وتعطي صورة عن المغاربة في بلاد الشام، خاصة عن أواضعهم العامة، كما عرض للحديث عن معاملة حجاجهم، رافعاً قصيدة إلى صلاح الدين بهذا الشأن، وتتبدى قيمة هذه الرحلة في أن معلوماتها دونت بأمانة، بعد مشاهدة صاحبها كل من وصفه، كما تتجلى فائدتها في أنها تُعرِّف الطريق البحري الذي يسلكه الأندلسيون إلى المشرق، وقد وصفه ابن جبير بدقة، معرفاً بالموانئ المهمة التي أدت دوراً كبيراً في الاتصال بين الشرق والغرب([10]).
ومن أهم رحلات القرن السابع الهجري، رحلة ابن سعيد المغربي، الذي غادر الأندلس وهو في التاسعة والعشرين، ووصل الإسكندرية سنة 638هـ، وتنقل بين المغرب وتونس ومصر والشام، وقد رأى في تجواله في تلك الأقاليم الإسلامية، كثيراً من العادات التي لم يألفها في الأندلس، ولم يقف عن تلك العادات في المجتمع المشرقي، بل سجل مشاهداته ووازن بينها وبين المجتمع الأندلسي، فالفسطاط في القرن السابع الهجري كما رآها كانت مُغبرَّة الآفاق، غير مستقيمة الشوارع، بيوتها مبنية بالطوب، ضيقة الأسواق، والناس يلتهمون الطعام في الطرقات غير محتشمين، وقد نقل ابن سعيد صوراً من الحياة في أحياء القاهرة والفسطاط، واصفاً الولائم ومجالس اللهو والطرب، تاركاً نفسه على سجيَّتها، لا تفوته اللمحات الذكية عند بعض المشاهد([11]).
وتكمن قيمة هذه الإشارات السريعة للرحلات الأندلسية، في أنها تدلل على دور الرحلات في نقل جوانب مضيئة مفصلة، تتصف بالدقة والأمانة عن بلدان المشرق، وخاصة أن بعض الأندلسيين ارتحلوا غير مرة، مما أتاح لهم أن يُسجلوا انطباعاتهم، ويصفوا مشاهداتهم وينقلوها إلى الناس بصورة حية.
وكثرت كذلك رحلات العلماء والمحدثين والأطباء على المشرق، بصورة يصعب حصرها، فقد كانوا أمثلة واقعية تؤكد استمرارية الاتصال بين المشرق والمغرب.