كتاب " دراسات في سيكولوجية العزلة الوجدانية " ، تأليف د. ايمان محمد الطائي ، والذي صدر عن دار الجنان للنشر والتوزيع ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب دراسات في سيكولوجية العزلة الوجدانية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

دراسات في سيكولوجية العزلة الوجدانية
خامساً: التوازن الانفعالي
منذ عصر أفلاطون، ظل الإحساس بتفوق النفس وقدرتها على مواجهة العواصف العاطفية الناتجة عن ضربات القدر بدلاً من الاستسلام لها لكي نصبح عبيداً للانفعال ظل هذا الإحساس فضيلة تستحق الإشادة بها. كانت الكلمة اليونانية لهذه الفضيلة هي ( سوفروزايم ) Sophrozyme، أي الانتباه في إدارة حياتنا: بمعنى الاتزان في الانفعال والحكمة، كما ترجمها الباحث اليوناني (بيج دي بوا) Page DU Bois. أما الرومان والكنيسة المسيحية القديمة فقد أطلقوا عليها أسم (Temperantia), أي ضبط النفس، أو كبح جماح الإفراط في الانفعال، والهدف من ذلك تحقيق التوازن الانفعالي وليس قمع الانفعال لان لكل شعور قيمته ودلالته. فالحياة من دون انفعال تصبح أرضاً قاحلة مملة، منقطعة ومنعزلة عن ثراء الحياة نفسها. والمطلوب، وكما لاحظ (أرسطو) انفعال يناسب الظرف ذاته. فعندما يكبت الانفعال تماماً فإن ذلك يؤدي إلى الفتور والعزلة، وعندما يخرج عن إطار الانضباط والسيطرة ويصبح بالغ التطرف والإلحاح، فإنه يتحول إلى حالة مرضية، تحتاج إلى العلاج مثل الاكتئاب المؤدي إلى الشلل، والقلق الساحق، والغضب الكاسح، والتهيج المجنون.
ولاشك في أن مفتاح سعادتنا العاطفية يكمن في ضبط انفعالاتنا المزعجة بصورة دائمة. هذا، لأن التطرف المتزايد والمكثف في العواطف لفترة طويلة يؤدي إلى تقويض استقرارنا. ومن الطبيعي ألا نشعر طوال الوقت بنوع واحد من الانفعال. والواقع أن هناك الكثير مما يقال عما تسهم به المعاناة البناءة في الحياة الإبداعية والروحانية و لأن المعاناة تهذب الروح .
ولاشك في أن تقلبات الدهر بما فيها من سعادة وتعاسة تعطي الحياة نكهة خاصة، وإن كانت تحتاج إلى التوازن. وما يحدد الإحساس بالسعادة بحساب القلب – هو معدل الانفعالات الإيجابية والسلبية. وهذه – على الأقل – هي الحكمة التي خرجت بها دراسات عن طبائع مئات الرجال والنساء وحالاتهم النفسية. تذكر أؤلئك الأفراد الأوقات العصيبة التي مرت عليهم وسجلوا انفعالاتهم في تلك الأوقات، مثل هؤلاء لا يحتاجون إلى تجنب المشاعر غير السارة للإحساس بالرضا عن حياتهم، لكنهم لا يتركون أنفسهم تحت رحمة مشاعرهم العاصفة من دون كبح جماحها حتى لا تحل محل حالتهم النفسية المبتهجة . وثمة أناس يتعرضون لنوبات عارضة من الغضب والاكتئاب, ويمكن لأولئك الناس أن يشعروا بالرضا عن حياتهم إذا ما تناوبتهم بقدر متساو فترات من الفرح والابتهاج.
وكما أن هناك أفكار من الماضي تعاود المرء على نحو منتظم، هناك أيضاً أصداء انفعالات تعاود المرء في أوقات منتظمة كل يوم في المساء أو الصباح لتتركه في حالة مزاجية من هذا النوع أو ذاك. ومن الطبيعي أيضاً أن يكون مزاج شخص ما في صباح أحد الأيام مختلفا عنه في صباح اليوم التالي . بيد أننا إذا أخذنا في الاعتبار متوسط الحالات النفسية لهذا الشخص على مدى أسابيع أو شهور، فسنجد أنها تعكس إحساسه العام بالرضا والسعادة. وهذا يدل في النهاية على أن المشاعر المتطرفة الحادة نادرة نسبياً، فمعظمنا يقف على خط الوسط الانفعالي الرمادي، مع بروزات خفيفة من الانفعالات الحادة عبر طريق حياتنا الطويل بمنحنياته العدة .
ومع ذلك تستغرق مهمة إدارة انفعالاتنا كل أوقاتنا، فمعظم ما نفعله – وخاصة وقت فراغنا – هو محاولة السيطرة على حالتنا النفسية . ذلك لأن كل شيء نفعله، بداية من قراءة قصة، أو مشاهدة التلفزيون إلى غيرهما من الأنشطة، إلى اختيار أصحابنا، يمكن أن يجعلنا نشعر بأننا في حالة نفسية أفضل. وفن التخفيف عن النفس مهارة حياتية أساسية. وفي هذا الصدد يرى بعض المفكرين من أساتذة التحليل النفسي، مثل (جون بولبي) John Bowlby ودكتور (وينيكوت) Dr. Winnicott أن هذه المهارة واحدة من أهم الأدوات النفسية الأساسية. وتؤمن هذه النظرية، بأن الأفراد الذين يتمتعون بانفعال سليم هم الذين يتعلمون كيف يهدئون أنفسهم بالتعامل مع الذات.
أننا لا يمكننا، غالباً، السيطرة على انفعالاتنا متى جرفتنا، أو السيطرة على نوعية الانفعال. ولكننا نملك السيطرة على الوقت الذي يستغرقه هذا الانفعال. والمسألة لا تنحصر في مختلف الانفعالات، مثل الحزن، والقلق أو الغضب، لأن هذه الحالات المزاجية تنتهي عادة مع الوقت والصبر. لكن إذا تصاعدت هذه الانفعالات بشدة وعلى نحو مستمر متجاوزة الحد المناسب، فإنها تتدرج حتى تصل إلى أقصى حدود الضيق إلى حالة قلق مزمنة، أو غضب غير محكوم، أو اكتئاب فإذا ما وصلت الحالة إلى هذا الحد، هنا تتطلب مثل هذه الحالات العسيرة التدخل الطبي أو النفسي، أو كليهما معاً للشفاء منها .
في تلك الأوقات تعد إحدى العلامات على قدرة الشخص على التحكم في انفعالاته هي القدرة على إدراك متى يصل التوتر المزمن إلى درجة من القوة بحيث يصعب تخطيها من دون مساعدة دوائية. وعلى سبيل المثال لم يكن ثلث المرضى بالاكتئاب الهوسي، يتلقون في الماضي علاجاً من الاضطراب النفسي .