أنت هنا

قراءة كتاب دراسات في سيكولوجية العزلة الوجدانية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
دراسات في سيكولوجية العزلة الوجدانية

دراسات في سيكولوجية العزلة الوجدانية

كتاب " دراسات في سيكولوجية العزلة الوجدانية " ، تأليف د. ايمان محمد الطائي ، والذي صدر عن دار الجنان للنشر والتوزيع ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 9

لكن اليوم يمكن لدواء (الليثيوم) Lithium والأدوية الجديدة مقاومة نوبات الاكتئاب التي تشل الإنسان, والتي تنتابه فيها مجموعة من الحالات (تصل إلى حد الهوس) التي تمزج بين الابتهاج المشوش، والإحساس بالعظمة، ونوبات الغضب . وإحدى مشاكل مرضى الاكتئاب الهوسي أنهم يشعرون غالباً بثقة بالغة في أنفسهم تجعلهم يعتقدون أنهم في غير حاجة إلى أي نوع من المساعدة، على الرغم من القرارات المدمرة التي يتخذونها. وفي مثل هذه الأحوال من الاعتدال النفسي يكون العلاج النفسي وسيلة لإدارة الحياة بشكل أفضل. ولكن عندما يأتي الأمر إلى مسألة التغلب على الحالات المزاجية السيئة فإن كلا منا يُترك لوسائله الخاصة . هذه الوسائل – لسوء الحظ – لا تكون فعالة في كل الأحيان, وهذا على الأقل ماتراه (ديان تايس)Diane Tice الباحثة السيكولوجية بجامعة (كيس ويسترن ريزيرف) Case Western Reserve. أجرت (تايس) بحثاً على أربعمائة رجل وامرأة، وجهت إليهم سؤلاً حول إستراتجيتهم للهروب من الحالات المزاجية السيئة التي تمر بهم، وإلى أي مدى نجحت وسائلهم في ذلك .

ولم يتفق الجميع مع هذه المقدمة الفلسفية التي تقول بضرورة تغيير الحالة المزاجية السيئة. فقد أجاب 5٪ منهم صنفتهم تايس على أنهم أنصار الحالة المزاجية الخالصة بقولهم إنهم لم يحاولوا قط تغيير حالاتهم المزاجية، لأن كل الانفعالات (طبيعية) – من وجهة نظرهم – ينبغي أن يعيشوها كما هي تماماً، بغض النظر عما قد تسببه من إحباط أو كآبة. كما وجدت أيضاً من بين مجموعة البحث، أفراداً يبحثون بصورة دائمة عن مدخل لحالة نفسية كئيبة لأسباب براجماتية مثل: الأطباء (النكديين) الذين لا يرتاحون إلا بإبلاغ مرضاهم أنباء سيئة، أو قادة الحركات السياسية الاجتماعية الذين يبالغون في غضبهم على الظلم لكي يزيدوا من فعاليتهم في مقاومته، أو الشاب الذي يقال إنه يصعد من غضبه كي يساعد أخاه الأصغر في تعلم (البلطجة) في اللعب مع أقرانه. ليس هذا فحسب، بل وجدت (تايس) أن هناك بعض الناس الميكافيلليين تماما فيما يتعلق بالأمزجة المخادعة .

فقد شاهدت المحصلين الذين يتعمدون إظهار الغضب ليضفوا على أنفسهم مظهر الحازمين أمام من يتعاملون معهم من المتهربين من الديون. غير أن التربية السلوكية لهذه الأمزجة الكئيبة نادرة، وهي موضع شكوى ممن يشعرون بأنهم تحت رحمة حالتهم النفسية. الحزن حالة نفسية، يحاول الناس عموماً التخلص منها بقدر استطاعتهم، وتوصلت (ديان تايس) إلى أن الناس يتحولون إلى مبدعين في محاولاتهم الهروب من الكآبة واليأس... ومن الطبيعي ألا يحاول الناس الهروب من كل أنواع الحزن, ذلك أن قدراً منه قد يكون مفيداً. فالحزن لفقدنا إنساناً عزيزاً، له تأثيرات معينة لا تتغير لفقدها اهتمامنا بالتسلية والمرح، وتركيز تفكيرنا على الإنسان الذي فقدناه، ونقص قدرتنا على البدء في محاولات جديدة، على الأقل مؤقتاً. خلاصة القول أن الحزن يعزز نوعاً من التفكير في الماضي الذي يعرقل مسيرة الحياة العملية. يتركنا الحزن في حالة توقف عن العمل، ننعى الفقيد، ونفكر مليا في معنى الفقدان. لكنا في آخر الأمر نتكيف مع أنفسنا، ونبدأ في وضع خطط جديدة تسمح لنا بمواصلة الحياة .

فالإحساس بالفجيعة في حد ذاته مفيد، لكن وطأة الاكتئاب المرضي ليست مفيدة . ولقد قدم (وليام ستايرون) William Styron، وصفاً بليغاً لأعراض هذا المرض العديدة المفزعة من بينها: (كراهية النفس) أو (الإحساس بانعدام القيمة) أو الإحساس القاتم بعدم الابتهاج بشيء والكآبة والفزع والاغتراب. وفوق هذا كله إحساس بالقلق الخانق. وبعد هذه الأعراض النفسية، تأتي الأعراض العقلية, (التشوش وعدم التركيز الذهني وضعف الذاكرة)، ثم تسود العقل في مرحلة متأخرة تشوهات فكرية فوضوية، وإحساس بإن عمليات التفكير تغمرها موجة مسمومة يصعب تسميتها تحول دون أي استجابة مبهجة للحياة، يأتي بعد ذلك التأثير الجسدي, المتمثل في الأرق وعدم القدرة على النوم، وإحساس هذا المريض بأنه ميت أعيد إلى الحياة، فاقد الشعور والمبالاة، كما يشعر أيضاً بالوهن والهشاشة الغريبة مع قلق عصبي كئيب. وأخيراً يفقد الإحساس بالسرور تماماً . أما الطعام فهو مثل أي شيء آخر، يصبح من خلال منظور الأحاسيس، بلا أي طعم أو مذاق.

وفي النهاية يدفن الأمل تماماً، ويفضي به الإحساس بتراكم الفزع إلى اليأس، إحساس ملموس مثل الألم الجسدي الذي يصعب احتماله مما يجعل الانتحار يبدو كأنه نوع من الحل.

لاشك في أن الحياة في ظل الاكتئاب المتقدم أو الحاد يصيبها الشلل تماماً، ويصبح القيام ببدايات جديدة مستحيلا. وتنم أعراض الاكتئاب عن توقف الحياة كلية. ويقول (ستايرون) إن أي علاج أو أدوية تفقد جدواها في هذا الحال. لكن مرور الوقت قد يزيل اليأس في نهاية المطاف .

أما بالنسبة للمرضى بحالة اكتئاب خفيف، فيمكن أن يساعد العلاج النفسي والدوائي هذه الحالات التي تعالج اليوم بدواء الـبروزاك (Prozac), كما يتوافر اليوم أكثر من أثني عشر دواء آخر. تساعد بعض الشيء وخاصة في حالات الاكتئاب الحاد.

بيد أن اهتمامي هنا يتركز على (الحزن) الشديد الشائع الذي يصبح إذا وصل إلى حدهُ الأقصى حزنا مرضيا اكتئابيا يتعذر اكتشافه، أي إلى (الكآبة المألوفة) وهذه درجة من اليأس يمكن للمصابين بها التعامل معها بأنفسهم، أذا كانت لديهم الوسائل الذاتية. لكن بعض الخطط التي يتبعونها في معظم الأحيان، يمكن – للأسف – أن تأتي بنتائج عكسية، فتتركهم في حالة حزن اكتئابي أسوأ مما كانوا عليه. ومن بين هذه الخطط، الانعزال عن الناس في وحدة يغريهم بها شعورهم بالإحباط. هذه العزلة تزيد – في معظم الأحيان – إحساسهم بالوحدة والحزن. وقد يفسر هذا جزئياً، لهذا اكتشفت (تايس) أن أكثر الأساليب لمحاربة الاكتئاب شيوعاً هي الاندماج في المجتمع مثل أن يتناول المكتئب طعامه خارج المنزل، أو يشاهد المباريات الرياضية, أو الأفلام، أي باختصار، أن يشارك أصدقاءه أو أسرته في أي عمل. هذا الاندماج في المجتمع يكون مفيداً وناجحاً بقدر ما يصرف العقل عن التفكير في الحزن. أما أذا استغل من يعاني من الاكتئاب هذه المناسبات في مجرد الانشغال بما دفعه للاكتئاب فإن حالته يطول أمدها.

الصفحات