أنت هنا

قراءة كتاب طريق الجنوب

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
طريق الجنوب

طريق الجنوب

كتاب " طريق الجنوب " ، تأليف عثمان أبو غربية ، والذي صدر عن دار الجندي للنشر والتوزيع

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
دار النشر: دار الجندي
الصفحة رقم: 2

أي منطق يأخذني إليه ؟! لقد سلمت أن هناك ما هو فوق المنطق، ما لا يمكن تفسيره بعامل واحد من عوامل الطبيعة الإنسانية، ما لا يمكن اختصاره دون تفاعل العقل والإرادة والروح والجسد، جميعها مع الطبيعة والحياة، ما لا يمكن أن يقتصر على المقاييس العلمية البحتة.

إن شعوري بالإنتماء هو تفاعل تراكمات الماضي مع تطلعات المستقبل، هو حاجة الإنسان إلى موطيء معنوي لوجوده وتبلور غريزة بقائه، هو ما يمكن وصفه بلغة العلم، أو ما يمكن استشفافه بالإحساس والوجدان. إنه خيط من لهيب الروح وضياء الشمس.

ربما أصبحت النقطة التي يجذبني منها هذا الطريق وطابعه الذي مس أوتار فؤادي، ليعزف نغم الحنين إلى إنتمائي، مع أنه لم يمض على وجودي فوق هذه الجزيرة سوى ساعات قليلة. فقد أخذت قراري بالسفر إلى قبرص قبل يوم واحد، في أجواء مشحونة بالعواطف التي ملأت أرجاء بيتنا في الكويت طيلة مساء يوم السادس من تشرين أول عام ألف وتسعمائة وستة وسبعين.

راحت والدتي بوقارها، وحزنها الذي أصبحنا نلمحه منذ أن توفى والدي في الثالث من أيلول، تكرر عليّ طلبها أن أرجيء سفري إلى ما بعد ذكرى مرور أربعين يوماً على وفاة والدي مستخدمة كل ما تستطيع من حجة ورجاء.

ليس من السهل أن أخبرهم في تلك الظروف عن وجهتي الحقيقية، فاضطررت إلى أن أكتفي بالقول أنني مسافر إلى البحرين، واخترتها بالذات لأنها محطة في طريقي.

شعرت أن لدي إصراراً قوياً للتوجه إلى لبنان، لأن واجبي يحتم عليّ أن آخذ موقعي بين رفاقي من المناضلين وهم يقاتلون دفاعاً عن الثورة.

كنت أفكر بإلحاح أن من واجبي أن أعود بأسرع ما يمكن، فقد احتدم كثيراً وطيس القتال، وتعقدت علاقاتنا بالسوريين أكثر من ذي قبل، وليس أمامي سوى المخاطرة بعبور البحر ما بين قبرص وصيدا، حيث تتعرض السفن والمراكب لمطاردة الزوارق المعادية ومحاولات الإغراق والأسر، وسوقها إلى موانيء الأرض المحتلة. شعرت أنني سوف أصبح أقرب إلى روح والدي حينما أواصل مسيرتي في الطريق إلى فلسطين، رحمه الله، لقد أحبها، وكانت أعزّ أمنية عليه أن يدفن فيها، وعندما توفى في الكويت صممنا أن نلبي رغبته. قد يعبّر هذا التصميم عن الوفاء لوالدنا الذي أعطى كل شيء من أجلنا أو عن اللاوعي الذي يكمن في داخلي، ويجسد رغبتي العارمة في أن يصير مآلي إلى القدس، أو إلى مدينتي الأصلية الخليل. عاش والدي غريباً وتوفى غريباً، وقد لامس شغاف فؤاده دائماً أمل العودة وحنين الوطن.

ما زلت أذكر كيف كان ينعكس ظل فؤاده في عينيه وهو يتحدث عن القدس أو عن الخليل أو عن فلسطين ووالده الذي توفى دون أن يراه، لقد ورثت منه هذا الحنين الرقيق الصامت، تماماً كما ورثت من جدي لأمي عناده وإصراره الذي لا يلين، والذي يختلط بحسه العارم بأصالة أرومته وجذوره التميمية.

عاش والدي رجلاً كافح في سبيل وطنه، وحمل السلاح شاباً يافعاً وهو وحيد أبويه، وقد احتفظنا دائماً بكثير من الاعتزاز بصورة له وهو في ريعان الشباب يأتزر برداء الجهاد المقدس.

ومات رجلاً صلباً تحمل المرض في أشد لحظات آلامه بجلد ويأس شديدين ضاناً على جميع من حوله أن يلحظوا عليه علامة ضعف واحدة طيلة صحوته.

انصرفت إلى حوائجي ارتبها في حقيبتي، ثم اضفت إلى محتوياتها ستة جوازات سفر تخص بعض الأخوة في دمشق وبيروت، وقبل أن أكمل التفَتَت إليّ والدتي تذكرني بموضوع إبن عمي الذي يرغب في الالتحاق بدراسة جامعية وسألتني:

- هذه شهادات إبن عمك، هل تأخذها معك أم نبقيها لإرسالها إلى دمشق؟.

- سآخذها معي، ربما يستجد جديد.

نهضت في الصباح مبكراً، وارتديت ملابسي قبل أن يستيقظ أحد في البيت، ثم رحت أوقظهم لنتوجه إلى المطار، فلي موعد مع الأخ أبي خلوي مدير مكتب "فتح" في الكويت، ويجب أن أنهي بعض الإجراءات، خاصة وأن عدداً من شباب الحركة سيرافقني أثناء رحلتي.

التقيت فعلاً بأربعة من الشباب الذين تعرفت عليهم في المطار، وحملت معي كتاباً موجهاً إلى الأخ أبي جهاد يتعلق بهم.

أنزوى شقيقي عبد الحي الذي يليني سناً، يحذرني وخاصة من البحر، فهو الوحيد من عائلتي الذي أخبرته أنني ذاهب إلى لبنان، إنه أقرب أشقائي إلى قلبي، بل إنه أقرب الناس، فهو رفيق عمري، عشنا الطفولة والصبا والشباب معاً، زرعنا أحلامنا ولهونا في وهاد المكان والزمان ومرتفعاتهما، وليس بيني وبين ذلك المنبت الحبيب من ذكرى إلا وهو الموازي الأثير، إنه معدن حقيقي وصلب.

أما والدتي فقد ظهرت كأنما تودع مفارقاً آخر من الأسرة. ولعله إحساس غريب انتابها، وربما هي الحاسة السادسة، إذ بدا على وجهها القلق والحزن وانعكس في وجوم على وجه شقيقي وباقي أفراد الأسرة.

لم تكن المرة الأولى التي أذهب فيها إلى أداء المهمات الخطرة، كلهم يعرفون أية طريق هي طريقنا، كان واضحاً على الجميع إحساسهم أن شيئاً ما سوف يحدث، أما أنا فقد شعرت بالاطمئنان تماماً، لأنني تعودت أن أواجه القدر وأن أعبره في كل الظروف، وجدت دائماً شيئاً له الأولوية أمامي، اسمه واجبي.

غادرنا مطار الكويت إلى مطار البحرين الذي وجدنا فيه مندوباً من مكتب "فتح" رافقنا داخل قاعة الانتظار خلال الفترة التي مكثناها، والتي أقلتنا بعدها الطائرة متوجهين إلى مطار لارنكا في قبرص.

أتصلت من المطار بمكتب منظمة التحرير الفلسطينية في نيقوسيا، فأفادني أحد الأخوة بتوفر سفينة ستتوجه الليلة إلى صيدا، وأعطاني عنوان "وكالة بدر" في مدينة ليماسول، مؤكداً أنه سيتصل بالحاج بدر صاحب الوكالة، كي يؤمّن لنا الحجوزات. وجدت نفسي بعدها في هذا الطريق الذي أنار الشوق والذاكرة وزوايا الفؤاد.

عندما وصلنا إلى وكالة بدر وجدنا ابنته وموظفة أخرى اخبرتني أن مكتب منظمة التحرير طلب أن أتصل به حال وصولي، ولما أتصلت تحدث معي الأخ أبو يحيى، مدير المكتب، فعزاني بوفاة والدي، واعتذر عن عدم دعوتنا إلى نيقوسيا، بسبب توفر سفينة للسفر إلى صيدا ذات اليوم الذي وصولنا فيه.

وجدنا أشخاصاً آخرين في وكالة بدر ينتظرون صاحب الوكالة، وعندما وصل قدمت له الفتاة جوازات سفرنا، ولما وصلني الدور بدت عليه علامات الاهتمام وسألني ما إذا كنت من مدينة الخليل، فأجبته مؤكداً ذلك، ومظهراً معرفتي بأنه هو أيضاً من المدينة نفسها، وأضفت:

- يرافقني أحد أقربائك.

- أين هو؟ .

- هذا هو، الأخ وليد بدر.

قدمت له أحد الشباب الأربعة، فراح الحاج بدر يسأل الشاب عن أسم والده وجده حتى عرف أرومته، بعد برهة، وصل مندوب من "فتح" يتابع المسائل الإدارية لحركة مناضلينا بين لبنان وقبرص، وما أن رأينا بعضنا البعض حتى تعانقنا، فنحن زملاء دورة عسكرية بكلية نانكين في الصين الشعبية قبل حوالي ثمانية أعوام، فقدمني بدوره للحاج بدر على أنني أحد مسؤولي فتح، ورحب بي صاحب الوكالة من جديد، وطلب على الفور فنجان قهوة لي، لأن علينا أن نتحرك إلى الميناء بسرعة.

وجدنا عدداً من الركاب على رصيف الميناء، فذهبنا جميعنا مع الحاج بدر إلى مركز الأمن لإنجاز الخروج على جوازات السفر، ثم صعدنا إلى السفينة "بيسميكر".

تحدث الحاج بدر مع قبطانها عني موصياً إياه أن يعطيني غرفة خاصة للنوم، وأن يقدم الخدمات اللازمة، فأدركت من لهجته الآمرة أنه مالك السفينة.

نزل الحاج بدر ومندوب الحركة إلى الرصيف بعد أن ودعانا، وانتزع البحارة الحبال، وبدأ المحرك يدور، ثم أخذت السفينة ترجع إلى الخلف بإتجاه الرصيف ليبدأ صياح البحارة وصياح الحاج بدر محاولين أن ينبهوا القبطان وأن يستحثوه على تدارك الأمر.

خرج جميع الركاب من المقصورة في محاولة لتبين سر الضوضاء، وتكاثر الناس على الرصيف، وحتى تلك اللحظة لم استطع أن أعي ما الذي يحدث!.

كانت السفينة تسير بسرعة باتجاه الرصيف، والبحارة يرمون الحبال إلى بعض المتحفزين عليه، فأخذ بعضهم يشد الحبال إلى المرابط الموجودة في الميناء، وهرع البعض الآخر يعدل من وضع دواليب المطاط على حافة جدار الرصيف.

أخذ القبطان يصرخ على العامل المختص بشؤون المحرك في الأسفل، ويطلب دون جدوى إيقاف السفينة التي أصبحت على وشك الارتطام بجدار الميناء، وبعد أن أمكن إيقافها في آخر لحظة أخذ المتجمعون على الميناء يحمدون الله على سلامتنا، كل ذلك حدث في غضون لحظات قصيرة. بالنسبة لي لم أكن أقدر خطورة الموقف، ونظرت إلى ما يجري باستغراب، فليست لدي خبرة سابقة بالبحر، لقد قمت برحلتين بحريتين في السابق، ولكنهما قصيرتان، ولم أعرف منهما أي شيء عن المراكب وسيرها بأكثر من المعلومات العادية.

كان القبطان قد أدار المحرك وبدأ بالرجوع إلى الخلف استعداداً لإخراج السفينة من الميناء، وعندما أراد إيقافها تعطلت الآلة الخاصة بإيقافها، فاستمرت السفينة تواصل تقهقرها باتجاه الحائط الخلفي الاسمنتي الصلب، موشكة أن ترتطم به، وهو ما يشكل خطراً عليها وعلى الركاب، لولا تدارك الموقف عن طريق شدها بالحبال إلى مرابط وقوفها الجانبية في الميناء، صرخ الحاج بدر للقبطان:

- لماذا لم توقف المحرك؟.

- تعطلت الآلة عندي، فناديت على العامل في الأسفل، ولم يتمكن هو الآخر من إيقافها.

- تأكد لي أن كان هناك ما يدعو إلى بعض الإصلاحات.

- ليس في الأمر ما يجعلنا نتأخر، يجب أن نتابع الإبحار.

الصفحات