أنت هنا

قراءة كتاب طريق الجنوب

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
طريق الجنوب

طريق الجنوب

كتاب " طريق الجنوب " ، تأليف عثمان أبو غربية ، والذي صدر عن دار الجندي للنشر والتوزيع

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
دار النشر: دار الجندي
الصفحة رقم: 3

بدأت سفينتنا في الساعة الثامنة من مساء السابع من تشرين الأول، عام ألف وتسعمائة وستة وسبعين تغادر ميناء ليماسول متجهة إلى صيدا، وعلى ظهرها أربعة عشر راكباً، وعشرة بحارة، جميعهم يتحسبون قرصنة الزوارق الصهيونية التي اعتادت أن تقطع على المراكب طريقها.

رافقني على متن السفينة الشباب الأربعة من أعضاء "فتح"، وهم وليد بدر، معين أحمد، علي حسين، محمد الزغموت، الذي كان يحمل وثيقة سفر لبنانية للاجئين، ويحمل الثلاثة الباقون جوازات سفر أردنية، وبقية الركاب يحملون جوازات سفر لبنانية، أما أنا فكنت أحمل جواز سفر يمني جنوبي.

وكان هناك عدد من البحارة الباكستانيين، وواحد قبرصي، واثنان من مواليد مدينة حيفا، يحمل أحدهم وثيقة سفر لبنانية للاجئين الفلسطينيين، واسمه عبد الفتاح أمين خالد ويلقب أبو مروان، والآخر يحمل جواز سفر لبناني ويلقب أبو علي، أما القبطان فقد كان لبنانياً.

اختلط جميع الركاب بعضهم ببعض، وبدأوا يتناولون المأكولات السريعة والمرطبات، اقتربت الساعة من التاسعة مساء عندما شعرت بالتعب والحاجة للنوم، فلم أنم في الليلة الماضية إلا القليل، وذهبت إلى القبطان في غرفة القيادة، فاستقبلني بقوله:

- سأعطيك غرفة تستريح فيها.

- نعم إنني أشعر بالحاجة إلى الراحة.

أمر أحد بحارته بترتيب غرفة في الأسفل لأنام فيها. ودعاني للجلوس برهة لشرب العصير، وبدأ يشرح لي كيف يحدد اتجاه سير السفينة بواسطة البوصلة، وإلى جواره البحّار الفلسطيني عبد الفتاح، الذي يناديه القبطان بلقبه أبي مروان.

راح الاثنان يدققان اتجاه الإبحار بين بوصلة بجوار مقود السفينة، وأخرى في الطرف الثاني من المقود حتى استقر الاتجاه تماماً.

جاءني بعد هنيهة أحد البحارة، ودعاني لأن أتبعه إلى غرفة أنام فيها، فتبعته إلى أسفل،حيث فتح باب إحدى الغرف، وهي غرفة صغيرة فيها حامل خشبي يشبه السرير، مفروش بطريقة ملائمة ومريحة، وأشار علي:

- بإمكانك أن تنام هنا، وإذا احتجت شيئاً يمكنك أن تبعث لي بواسطة العمال بقرب هذه الغرفة.

- شكراً، لا أريد شيئاً.

صعدت إلى الفراش ولم أمكث سوى برهة قصيرة، استغرقت بعدها في نوم عميق.

أفقت في الصباح متأخراً، وقد تسلل الضوء إلى الغرفة من نافذة دائرية بالقرب من رأسي، نظرت من خلالها إلى أمواج البحر المتلاطمة، ولم تكن هذه النافذة تعلو عن سطح الماء إلا بمقدار يقل عن نصف المتر، فمددت يدي لألامس المياه التي تشقها السفينة محدثة فجوة وخطاً يحيطها من الزبد والماء النافر والرذاذ الكثيف، وهي تسير متأرجحة تجعلني أهتز مع تأرجحها.

أحسست برأسي يدور، وفكرت: إنه دوار البحر ثم قررت النهوض والصعود إلى الأعلى، إذ شعرت بحاجتي إلى التقيؤ. وجدت قسماً من الركاب على سطح السفينة يجلسون حول المقصف وهم يشربون الشاي أو المرطبات، فسألني بعضهم:

- أين أنت؟ لقد افتقدناك..

مع أنني لم أتصور أن هناك من يمكن أن يفتقدني من غير رفاقي، فقد أجبت بدون إبداء الاستغراب:

- كنت نائماً في الأسفل..

جلست معهم قليلاً، ورأسي ما زال يدور، إنه الغثيان! لقد اشتدت حاجتي إلى التقيؤ، فنهضت مسرعاً إلى حافة السفينة ورحت اتقيأ بشدة.

أخذت أتشبت بحبال السفينة بينما رأسي يتدلى نحو البحر، وأنا أشعر بأمعائي تتلوى ومعدتي تتقلب وهي تضغط ضعطاً شديداً كي تطرد الطعام، اعتصرتني هذه الحالة، أبقت فمي فاغراً، وضغطت في أعلى الحلق، فأخرجت سائلاً أصفراً، وتكرر خروجه مع دفع ضغطات المعدة المتلاحقة، جاءني البحّار أبو علي قائلاً:

- لا بأس، يجب أن تخرج الصفراء من معدتك، لأنها السبب.

ثم أحضر لي بعض الماء، وطلب مني أن أغسل وجهي وفمي، استرحت قليلاً ثم شعرت براحة أكبر، وذهبت لأجلس في مقدمة السفينة أتأمل العباب.

راقبت حركة الماء وتجعدات الموج الخفيف، عصفت بذاكرتي الأفكار الكثيرة وأنا في مواجهة البحر. لم أر في تلك اللحظة من العباب سوى خيال والدي، هل رحل إلى الأبد حقاً؟! وهل طوته الحياة بعد أن كان يملؤها ؟! وفكرت لا بد لي أن احتفظ ببعض صوره، ولعل الأجمل منها تلك التي يضع فيها بندقيته على كتفه ويتمنطق (بالسلاحلك)، ويأتزر بزي الجهاد المقدس.

بدت لي تلك الصورة أجمل ما يتراءى من وجوه الطيف الذي يتماوج في خيالي على صفحة الماء، لكأنها تحمل المعاني التي تلامس أعماق جيلنا وأمانيه. شعرت بشيء من الراحة يعاودني لأننا تمكنا من الوفاء له، ونقل رفاته إلى مدينة القدس ليدفن في مقبرة باب الاسباط بجوار الكثيرين من أبناء عائلتنا.

لعلها أمنيته الوحيدة التي أفصح عنها، وكأنها إرادته الأخيرة أن يدفن هناك بباب الأسباط، في ظل أسوار القدس التي أحبها وقاتل دفاعاً عنها، وارتبطت بها كل أمانيه وذكرياته.

لن أنسى أبداً عيون النسر المهاجر الذي زرع فينا لون الصخور الشامخة، لقد عاش صلباً ودافئاً ومضحياً، وعارك الحياة وحده، وجعل ابناءه ينبتون في ظل تربية صارمة، وعلّمهم كيف يعتمدون على صلابة أجنحتهم.

حقاً كان نسراً جديراً بالمهابة التي ظللت حياته، وبجلال الموت لحظة السكون الأخير، وبثرى الوطن مآلاً حنوناً للجسد الذي أجهدته تضاريس الحياة.

خطفتني من الذكرى أسئلة بعض الركاب الذين اقتربوا مني وهم يستفسرون من أحد البحارة عن الزمن المتبقي، فأجابهم:

- لم يظهر البر حتى الآن، بعد قليل سنشاهد الجبال، ثم ننتظر بضع ساعات للوصول.

نظرت إلى ساعتي فوجدتها العاشرة صباحاً، ومكثت بعض الوقت قبل أن يدفعني الغثيان إلى التقيؤ في البحر مرة أخرى، وقد كرر البحّارة معي المساعدة نفسها، أراد البحّار المسن أبو علي أن يهدئني بالقول:

- انك تربح كثيراً بخروج هذه الصفراء اللعينة.

عدت لأجلس في مقدمة السفينة، ومضى أكثر من ساعة قبل أن تظهر ملامح واهية للجبال، عندها بدأ بعض الركاب يشيرون إلى البر ويهتفون: إنها الجبال، لقد ظهر البر.

راحت السفينة تشق عباب الأمواج بأناة وبطء، فهي سفينة قديمة، ليست كغيرها من السفن أو المراكب الحديثة سرعة وثباتاً. كانت شمس تشرين معتدلة في ظهيرة ذلك اليوم، والبحر ليس عالياً ولا منخفضاً، والجو صاف لا تشوبه أية آثار للأحوال التي تضعف الرؤية، ومعالم الجبال تزداد وضوحاً وهي تملأ الأفق بخط متعرج يغلب عليه اللون البني.

الصفحات