أنت هنا

قراءة كتاب طريق الجنوب

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
طريق الجنوب

طريق الجنوب

كتاب " طريق الجنوب " ، تأليف عثمان أبو غربية ، والذي صدر عن دار الجندي للنشر والتوزيع

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
دار النشر: دار الجندي
الصفحة رقم: 6

رجع إلينا الزورق، فأخبر بحارتنا رجاله بالأمر، وسرعان ما رموا حبلاً متيناً ربطوا مركبنا به، ومضى الزورق بقطر سفينتنا.

استغرق الأمر أكثر من عشر دقائق حتى بدأ الركاب يعودون إلى وضعهم الطبيعي. حضر البحار الفلسطيني أبو مروان محاذراً أن ينتبه إليه الآخرون وأسرّ لبعض زملائه البحارة: أرجو أن لا يناديني أحد باسم سلام، اسمي هو عبد الفتاح.

رحت بدوري أتصل برفاقي كلاً على حدة متظاهراً بأنني أتحدث بأمور عادية، وكأنهم ركاب لم أعرفهم من قبل، مذكراً كل واحد منهم بما قلته لهم، وسائلاً إياه ما إذا فكر جيداً بما سيقوله لآسرينا، وأطلب مزيداً من التفكير أو أصلح بعض الأقوال وأناقشها.

حرصت بالمقابل على أن أتحدث مع ركاب آخرين، ولم يكن حديثي معهم يعدو عن سؤال أو كلام غير ذي بال، المهم أن أغطي حديثي مع رفاقي.

جلسنا في المقصورة، معظم الركاب، وبعض البحارة، وقبطان السفينة الذي تأهب بجدية وقال: يجب أن نعرف اسماء بعضنا البعض، فربما يبقى أحدنا حياً ويخبر عن الآخرين، راح المتواجدون يعرفون بأنفسهم الواحد بعد الآخر، أما أنا فقد خرجت إلى مقدمة المركب، لأنني لم أرغب أن أواجه حقيقة الموت بأدنى قدر من الاستسلام!.

انطلقت فجأة بعض العيارات النارية المتعاقبة، وجعلت الركاب يهرعون لمعرفة ما الذي يحدث، فوجدوا الزورق الحربي مصدراً لهذه العيارات المتجهة نحو السماء، حيث ما فتيء أحد رجاله يطلق الرصاص باتجاه طائر بحري كبير، يعلو زورقهم ويطير بهدوء وبطء، أخطأته العيارات النارية المتعاقبة، ولم يتمكن ذلك المسلح من إصابته! فوقف أخيراً ينظر للطائر يبتعد شيئاً فشيئاً، وهو ما زال يأخذ وضع الاستعداد للرماية، وجدت نفسي أبتسم لهذا المنظر!!.

شاهدنا بعض رجال الزورق يتحدثون إلى أحد بحارتنا، وهو يقف في مقدمة المركب، إنه بحار باكستاني لا يجيد اللغة العربية، كانوا يتوعدونه ويشتمونه، وهو يبتسم لهم معتقداً أنهم يتسامرون معه، أصبحوا يتفوهون له بألفاظ بذيئة وقذرة، وهو يشكرهم على لطفهم ويستزيد، ابتسمت مرة أخرى للمنظر.

انقطع حبل القًطْر فجأة من جديد، وراح المركب يتمايل في أحضان حركة الماء التي أخذت تتقاذفه بقوة، ومرة أخرى هب الركاب بعضهم مذعوراً تحت وطأة هذه اللطمات البحرية.

رجع الزورق الحربي وربط رجاله الحبل بتذمر وامتعاض، إلا أن الأمر لم يتوقف، فقد عاد الحبل للانقطاع قبيل غروب الشمس مباشرة، فأعيد ربطه هذه المرة مع الزورق الآخر الذي عاود اللحاق بنا والاقتراب منا.

وكانت الشمس قد أصبحت على حافة الأفق تماماً، وكانت اشعتها تنعكس على أمواج البحر البعيدة محدثة تمازجاً جميلاً ما بين لون الشفق ولون البحر، وقد أصبح ينعكس عليه خط الشفق بذرات حمراء متلألئة على سطح الماء آخذة شكل نهر المجرة.

صار البحر سجادة زرقاء فسيحة تكتسي صفحتها الرحبة بالخطوط والانحناءات التي أحدثتها حركة الهواء بتياره اللين الهادئ، وكانت الأشعة الحمراء تنعكس بخط طولي يتماوج مع انحناءات الماء، وينعكس بلون يغمره لون الشفق، ويختلط بالأزرق الذي يشوبه اخضرار خفيف.

كان خط الانعكاس بين الشمس والبحر يحتد ويمتد كلما أصبح سقوط الجمرة المضيئة وشيكاً.

راح جو تشرين المعتدل يضيف رونقه للبحر ولبقايا الأصيل، ويترك لمساته وهو يبعث الطراوة من نسائمه المنعشة، لتمس الجسد مساً لطيفاً وعذباً، وكأنها تناجيه بلحن من الشفافية والنعومة.

أما السماء فكانت صحفة صافية تمتد امتداداً يتصل بخط الرؤية في البحر عند نقطة الأفق.

كان المنظر أمامي وكأن الطبيعة عروس طاووسية تختال وتتجدد وهي تستعرض بهاءها الجامح بجلال قوة الخلق المبدعة، كي تدخل في النفس ذلك الإيقاع الموسيقي الدافيء، الذي يوقظ توتراً شعرياً وجمالياً عظيمين.

شعرت بحاسة جديدة تتحرك في أعماق روحي، هي الحاسة الجمالية، وبدأت تتدفق إلهاماتها في النفس محركة الحنين إلى الشعر والرسم والموسيقى تماماً كما تتدفق أمواج البحر وتفيض على حافة السفينة.

إن البحر يلقي في النفس إحساساً بالطبيعة وعظمتها أكثر عمقاً، يجعل الإنسان يرى نفسه نقطة صغيرة في صفحتها اللامتناهية.

أعادني البحر إلى علاقة الإنسان بالطبيعة، وصراعه المرير من أجل السيطرة على قوانينها، وتسخير قواها لخدمة حياته.

واجه الإنسان هذه الطبيعة الهائلة أعزل عارياً، لكنه استطاع بفضل العقل والإرادة والعمل أن يصبح سيد الأشياء الكبيرة والصغيرة في عالمه بعد أن كان في الغابة طريداً للحيوانات المفترسة.

البحر غابة هائلة، لا نرى سوى سطحها ونحن نمر من فوقها. عمق البحر مليء بالحياة والأشياء، إنه عالم معقد يضج بالكائنات وتدور فيه صراعات حادة للغاية، فثمة أحياء تبحث عن البقاء، وثمة أحياء تفترس كل ما تجده في طريقها، حيث القوة هي الحكم الأول.

إنه قانون الغريزة الذي يجعل الأمور رهناً بالحاجة على مستوى الكائن الفرد، والغريزة عاتية، يجب أن يضبطها الضمير والعقل والإرادة، وهو ما يحتاج في المجتمعات البشرية إلى وصول عوامل الذات الإنسانية إلى مستوى من التطور والتأهيل بعوامل الفضيلة في إطار الترابط والتكامل وتأمين الحد المناسب.

ثمة أفراد وجماعات ضمن المجموع الشامل للبشرية والأمم يفتقرون بدرجة من الدرجات إلى هذا الوصول، وهو ما يؤدي إلى سيطرة الحس الغريزي عليهم، سواء بحكم غرائز الأفراد أو غرائز الجماعات. غالباً ما يتحول هؤلاء الأفراد أو الجماعات إلى قوة مدمرة ومعتدية في تاريخ الإنسان، إلى إحياء بحر مفترسة تمتلك القوة أحياناً، وربما تمتلك التفوق العلمي أيضاً، ولكنها محكومة بحس الغريزة المنفلت عن إطار الحس الشامل للإنسان ككائن يتكامل في مسيرة التطور.

إنه الجانب الآخر من النفس البشرية، ذلك الجانب الذي يمتلئ بحوافز العدوان وتلبية الشهوات، والسيطرة، والتدمير، ولا يضيؤه من شيء سوى شمعة الوجدان المتقدة، ونور البصيرة والخير.

أيتها النفس المليئة بالشهوات والخوف والأنا، هذا الثلاثي المزدوج ما بين خصائص الحاجة الفطرية والشر، إنك أيضاً مليئة بالسمو والجرأة والتجرد، وإذا كان الثالوث الأول يخلق الإنسان بين حدوده الطبيعية وبين الشرير، فإن الثالوث الآخر يمكن أن يخلق الأبطال والقديسين.

بالعقل والإرادة والعمل انتصر الإنسان في الصراع بين الخير والشر، وبين الإنسان وغيره، وبها يمكن أن ينتصر في كل معاركه.

تذكرت أنني الآن على أبواب معركة تحتاج إلى مقومات الانتصار، ليس فقط دفاعاً عن الحياة، وإنما دفاعاً عن المعاني السامية وتحقيقاً للواجب أيضاً.

إن الحياة لدى المناضل في سبيل ما هو أسمى ليست فوق كل شيء، وخاصة لدى المناضل في إطار قضية مليئة بالتحدي والصراع، تجعله يعتاد الموت اليومي ويستهين بملاقاته.

في أوار التحدي والصراع والمسيرة الصعبة إلى فلسطين لا بد لنا أن ندرك أن المسألة ليست مسألة العمر الأطول، ولكنها مسألة الفعل الأكثر.

إن الفارق بين الحياة والموت يكمن من حيث الجوهر في فعالية الإنسان وآثاره، فثمة من يعيشون مائة عام ولكنهم ينتهون بمجرد أن يواروا الثرى، وثمة من لا يعيشون سوى العشرات القليلة من السنين، ولكنهم يتركون بذوراً تنبت في الحياة وتنبت لهم أعماراً جديدة.

الحياة تقاس بالفعالية وليس بالأيام، وثمة من يكثفون في لحظة واحدة فعلاً عظيماً يساوي عمراً بأكمله.

نعم علي أن انتصر، لأن واجبي أن انتصر!! عدت أفكر من جديد بما أنا مقبل عليه، أخرجت جواز سفري، وتفقدته صفحة صفحة وختماً ختماً، لكي لا أدع مجال لأي خطأ يمكن أن يتحول إلى ثغرة في أقوالي واستغرقت أوافق بين الأقوال التي أعددتها وبين جواز السفر والأوراق الأخرى التي أبقيتها.

أصبح الظلام يخيم على البحر، تألقت نجمة الغروب، النجمة الزهراء، وقد توهجت اشعاعاتها الثمانية توهجاً ماسياً لترسل نورها الأزرق الذي ألهم الخيال الاسطوري للإنسان، وصارت أضواء الشاطئ تتلألأ أمامنا، وكأن الحياة عادية في لبنان، شاهدت خطاً متصلاً من أنواع السيارات على الطريق الرئيسي الساحلي ما بين بيروت والمنطقة الشمالية المحاذية للبحر، تمكن الإعياء والتعب من بعض الركاب، فاستلقوا هنا وهناك نائمين، أما أنا فقد أحسست باليقظة والجوع، وقلت في نفسي:

- يجب أن آكل، فمن يدري كم سنبقى بغير طعام؟!

طلبت من العامل المختص في المركب بعض الطعام، فأحضر لي قطعاً من الخبز اليابس وقليلاً من حبات الزيتون تذكرت طفولتي، فأنا أجهل مصدر هذا التفاؤل، وقد سبق أن تفاءلت في موقف آخر برؤيا الخيل التي أعشقها منذ الطفولة.

صرنا على مقربة من ميناء جونيه عندما تركنا الزورق عند نقطة في البحر، وأمرنا بالانتظار فيما كان يمضي باتجاه الميناء، وما هي إلا لحظات حتى اقتربت منا قاطرة بحرية يسبقها ضجيج محركها، وأشار رجالها إلى القبطان أن يرفع مرساة ليقوموا بقطرنا باتجاه الرصيف.

شاهدنا في طريقنا إلى الرصيف سفناً مضاءة على الجانبين، يقل بعضها ركاباً يبدو عليهم انتظار السفر، أما الرصيف فقد اكتظ بحشد من المسلحين الذين كانوا يحملون البنادق والمسدسات والخناجر، ترك هذا المنظر حالة من الخوف والتحسب وانتظار المجهول في نفوس ركاب سفينتنا، فكرت:

- ربما تصبح رؤوسنا بعد قليل بين أقدامهم يتقاذفونها!.

يا لكآبة الخيال، وما أضيق الطريق الذي يفضي إلى الحياة وما أوسع مسافات الأمل.

الصفحات