أنت هنا

قراءة كتاب طريق الجنوب

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
طريق الجنوب

طريق الجنوب

كتاب " طريق الجنوب " ، تأليف عثمان أبو غربية ، والذي صدر عن دار الجندي للنشر والتوزيع

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
دار النشر: دار الجندي
الصفحة رقم: 10

غادر الضابط الغرفة فور فراغه من حديثه، ولم يكن قد ابتعد أكثر من ثلاثة أمتار حتى عاد المسلحون يضربوننا بأيديهم وبنادقهم وبما توفر لديهم من عصي وهراوات، واستمروا في ضربهم العشوائي الحاقد حتى سمعوا أحد الحراس من الخارج ينبههم من جديد:

- الرائد.

توقفوا عن ضربنا، ثم دخل ضابط جديد برتبة رائد أيضاً، ونظر إلينا واحداً واحداً، ليحدثنا هو الآخر عن لبنان، وعظمة الموارنة فيه، وإنسانيتهم وأسلوبهم الحضاري.

كانت الدماء على وجوهنا، وآثار الضرب الظاهرة فينا تكذب كل حرف مما يدعيه لهذا الجزء الذي يمثله من المارونية الانعزالية، فقد كان التزوير والإدعاء واضحين في كل جملة تفوه بها..

انتقل إلى الحديث عن الأزمة اللبنانية مشيراً إلى أنها بدأت بمقتل معروف سعد، واتهم المقاومة الفلسطينية بقتله من أجل تفجير لبنان.

شعرت بأن كلامه، يدعو للإشمئزاز، وأنه كذب واضح، فمن المؤكد لنا أن عملاء المكتب الثاني هم الذين قتلوا المناضل معروف سعد، وأن رحيله شكل خسارة كبيرة للصف الوطني اللبناني وليس العكس.

تعمدت أن أنظر إلى ساعتي مبعداً وجهي عن الضابط هرباً من استفزاز نظراته وعباراته، فانتبه أحد المسلحين إلى ساعتي، واستدار لأحد الحراس قائلاً:

- لماذا تبقون هذه الساعات الجميلة معهم؟.

نظر الحارس إلى الساعة، وأدركت من نظرته أنه عزم على أخذها، بينما استمر ذاك الرائد في الحديث عن اللبنانية واللبنانيين، مضيفاً هو الآخر:

- إننا سوف نتسامح مع كل لبناني، حتى المسلم اللبناني سوف نسامحه، أما غير اللبنانيين فإنهم لن يخرجوا أحياء.

وأضاف أيضاً:

- سنقضي على الفلسطينيين، ونخلص العالم من شرهم، لم يبق لهم سوى منطقة صغيرة في بيروت، سندمرها على رؤوسهم!.

تذكرت بداية حديثه عن الإنسانية، وطفقت أتابع كلامه وأنا أفكر في دوافعهم، ما الذي يجعلهم يحقدون كل هذا الحقد!

لقد تلمست لدى جنودهم ومسلحيهم دوافع عميقة، إنهم يحسون أنفسهم كمدافعين عن وطنهم ضد غزو الأغراب، وتملأ غرائزهم درجة عالية من التعبئة لا يمكن أن تعبر إلا عن إيمانهم بقضيتهم.

اكتشفت في هذا الجندي أو المسلح الذي يقاتلنا أنه يمتلك قناعة بكونه مناضلاً في سبيل الحرية، بل لقد تذكرت في عيونهم حقدنا على الغزو والاستعباد، ولكنني لعنت التعبئة الخاطئة التي شوهت الأمور لديهم.

لقد رأيت فيهم سكيناً وضحية في نفس الوقت، وأشفقت عليهم عندما تذكرت أنهم يموتون ضد مصالحهم الحقيقية، وضد انتمائهم الحقيقي وهم يدافعون عمن يخدعوهم.

إنهم يموتون ضد أمتهم وشعبهم، ودماؤهم تذهب لمصلحة العدو الحقيقي، وهم يعيشون وهم التمايز عن واقعهم. إنهم لا يدركون أين يصنفهم العدو؟ّ، هذا العدو الذي نقاتله لو ترك وشأنه سيبتلعهم ولن يرحمهم! لماذا لا يدركون هذه الحقيقة؟ لماذا لم يقرأوا الحكمة التي تقول "أكلت يوم أكل الثور الأبيض"؟!! هل يمكن أن تكون هناك حروب عادلة من الطرفين؟! من المستحيل أن يكون الحق في جانب طرفي الحرب معاً. أحدهما بالتأكيد عدواني وظالم، وربما كلاهما، فخندق الحق لا يتسع لطرف واحد من أطراف أية حرب. وكثيراً ما شهد التاريخ حروباً ظالمة من كل أطرافها.

اسئلة كثيرة جابت أفكاري، وأنا أرى هذا التناقض بين لون جلودهم وأفكارهم، وسألت نفسي أخيراً أين يكمن السر في كل ذلك؟ إنه عدم الوعي لحقيقة الموقع في إطار الصراع الشامل! إنها الفتنة! إنه تاريخ الإنقسام الطائفي، الذي في أوار ردود أفعاله المتبادلة تنشأ تطلعات متعاكسة تحدد اتجاهاته الأرضية الموضوعية والذاتية لكل طرف، وهي التربية المتأصلة نتيجة لكل ذلك في حالة هؤلاء الانعزاليين للنزوع خارج الأمة، بل وإلى أعدائها أحياناً.

من يفقد الإنتماء إلى أمته يخرج من جلده، والذي يحصل أمر غير طبيعي، لا يمكن أن يدوم. في مثل هذه الحالة من الإنقسام والتناحر لا يوجد سوى حل واحد وهو الحل الوحدوي الديمقراطي، الذي يقوم على أساس العوامل المشتركة، وعلى أساس إنسانية الإنسان والمساواة بين المواطنين.

سألت نفسي عن مثل هذه الظواهر من الإنقسام الإجتماعي لدى الأمم الأخرى، فوجدت أن الشروخ الإجتماعية ظاهرة عامة تقريباً، أوروبا، تلك الشعوب التي تبحث عن الشمس مليئة بظاهرة الشروخ بين الجماعات، فبريطانيا التي كانت عظمى تتنازعها أربعة تمايزات بين الإيرلنديون والويلزيون والسكوتلانديون والانجليز.

وبلجيكا الصغيرة يتنازعها التمايز بين الوالو والفلمنك، ولا يمكنك أن تجد مجتمعاً في أوروبا خالياً من هذه الظاهرة، فأوروبا هي أم الصراعات، الصراعات القومية والصراعات الطائفية على حد سواء.

نحن شعوب تبحث عن المطر، وهم يبحثون عن الشمس. البحث عن المطر يعبر عن ظمأ الحياة، وحرارتها ولهيب الحقيقة الساطع فيها، أما البحث عن الشمس فأنه يعبر عن ظمأ الروح للحقيقة العليا ووضوحها، عن جليد الحياة، تترك المسافة بين البحث عن المطر أو الشمس فوارقها في الوجدان الإجتماعي الحضاري، في وعي الأشياء والتأثر بها، وتلقيها، والاستجابة بردود الأفعال عليها في التشكيلة النفسية للمجتمع.

أنها فوارق في الكثير من مظاهر السلوك، البلاد التي تبحث عن المطر تتعلق دائماً بالغيث، وتنتظر الأمل في حركة الطبيعة، وترتبط بكنه الحياة وأولياتها.

البلاد التي تبحث عن الشمس تتعايش مع حركة الطبيعة، وتقلباتها وتستثمر الفسح بين فصولها، وترتبط بآلية الحياة.

ومع ذلك فنحن وإياهم نمتاز بهذه الظاهرة التي تنم عن انفصال الإنسان في نهجين، ابتداء من داخل ذاته، ثم داخل مجتمعه، ثم داخل عالمه.

هذا هو توازن السالب والموجب في الحياة التي نعيشها!

قطع حبل أفكاري عندما أنهى الرائد حديثه وانصرف، ليعود الحراس مرة أخرى إلى تسلية أنفسهم بضربنا، ذلك الظمأ الأسود لا ينضب، اقتربت الساعة من الواحدة بعد منتصف الليل، سألت نفسي: وماذا بعد؟!.

وجدت جواباً واحداً لهذا السؤال هو:

- الموت!

فأنا أعرف تاريخ الأسر والخطف في هذه الحرب القذرة، وسألت نفسي من جديد:

- إذن ماذا انتظر؟ وكيف يجب أن أتصرف؟.

عقدت العزم أن أغامر بشكل انتحاري عندما أتيقن أنهم سيقتلوننا، عليّ أن أحاول أن لا يكون موتي بلا ثمن، وأن تكون محاولتي في اللحظة المناسبة والاتجاه الصحيح.

عبرت خواطر كثيرة في ذهني، وقلت في نفسي: هل حقاً ستكون النهاية؟ وهل أعطيت ما يجب أن أعطيه في الحياة؟ كنت أحلم بدور أكبر، ولكن هذه الساعة، ساعة النهاية لا يمكن للمرء أن يعرف متى تأتي.

المهم أنني حاولت وسرت في الإتجاه الذي وجدته صحيحاً، وينبغي أن أكون راضياً وقرير العين، وقبل ذلك ينبغي أن لا أستسلم فما يزال لي دور هنا أيضاً.

أدرك الآن بقوة وصفاء أن الحياة دور ورسالة، وأن هذا الدور وهذه الرسالة عظيمان بقدر عظمة الأفكار والإرادة خلفهما، وبقدر عظمة الغاية أمامهما.

ليس الأهم أن يقطع عليك القدر الطريق، ولكن أن تكون قد أخترت طريقك بالذات.

نحن ذرات صغيرة جداً في مسيرة الإنسان الخالدة عبر الزمان والمكان وليست العبرة فيما تتمكن أن تؤديه ذرة واحدة، ولكن العبرة في أن تتواصل مسيرة الإنسان نحو أهدافه، وأن تتحقق هذه الأهداف هدفاً بعد هدف، وأن تتجدد الأهداف، وأن يتتابع الرقي والتقدم والعلم والقدرة على استخدام البيئة لما هو أكبر وأسمى وأعظم.

عندما تأملت مسيرة الإنسان، لاحظت المفاصل لتبلور أهداف شمولية اتجهت نحوها حركة البشرية الدائبة. وتلك الأهداف الخالدة التي تبلورت عبر النضالات بين الإنسان والإنسان هي الحرية والعدالة والسلام والتقدم.

إننا جزء من الحركة الدائبة نحو هذه الأهداف، توجد فوق ذلك أهداف أخرى في نطاق أعم وأشمل من العلاقات بين الإنسان والإنسان، ونحن أيضاً جزء من حركتها المنبعثة من خاصية الحياة.

عزائي أنني في اتجاه هذه الحركة الخالدة!!

عندما يقرر الإنسان التحدي والمجازفة فأنه في لحظة واحدة يتجرد ويصبح فوق خيار الموت، ويجد العزاء في قبول هذا الخيار من أجل أن يلج تحديه بعزم ودون تردد. وقد وجدت عزائي في راحة الضمير، راحةٌ مبعثها الرضى عن مسيرتي في طريقي عبر مسالك الحياة.

أوقف أفكاري هذه المرة مجيء الضابطين الذين طلبا منا أن نحمل حقائبنا ونصطف، أخذوا بعدها بإخراجنا كل ثلاثة معاً.

خرجت إلى الباحة وبرفقتي اثنان والجنود خلفنا ومن حولنا، يركلوننا ويضربوننا بأعقاب البنادق، وعندما انهال عليّ أحد الجنود بقسوة ملحوظة نظر إليه الرائدين نظرة تعني أن يخفف قليلاً.

وجدنا بانتظارنا سيارات (لاندروفر)، فأمرونا أن نصعد كل ثلاثة في سيارة واحدة لنتخذ أماكننا في أحد المقاعد الخلفية، وصعد في سيارة مقابلنا حارسان مسلحان، وفي الأمام جلس أحد الضباط وإلى جواره سائق السيارة، وعندما اكتمل الصعود إلى السيارات بدأنا نتحرك.

سارت السيارات بسرعة جنونية بدون إضاءة في شارع طويل، لم أكن أعرف أين يتجه، تبدو فيه آثار القنابل والانفجارات بشكل واضح.

كان الطريق شبه منار، تملؤه الحواجز وبقايا سيارات محترقة، وحجارة وعجلات من المطاط، وأشياء كثيرة مما يمكن أن يتناثر بسبب القصف الشديد. حاولت تفحص الشارع كي أعرف الاتجاه الذي نسير فيه، أما الجنود فقد واظبوا على تسديد فوهات بنادقهم نحو صدورنا، وأياديهم على الأزندة.

تخيلت أن اصطدام السيارة بالأنقاض المتناثرة يمكن أن تؤدي إلى قتلنا. فبنادقهم جاهزة للإطلاق وليس صعباً عليّ أن ألاحظ وضعية البنادق.

صادفنا بعض كمائن الحراسة التي كنا نتوقف أمامها ليتحدث إليها أحد الضباط فتسمح للسيارات التي تقلنا بمواصلة سيرها.

الصفحات