كتاب " طريق الجنوب " ، تأليف عثمان أبو غربية ، والذي صدر عن دار الجندي للنشر والتوزيع
أنت هنا
قراءة كتاب طريق الجنوب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
أصبح رهاني الأول في تلك اللحظة على إمكانية خداعهم والافلات منهم.
إنتهى استجواب جميع الركاب، عاد بعض المشاركين في الاستجواب فسأل أحدهم:
- بقي شخص واحد لم يأخذ جواز سفره اين هو؟
عرفت أنني المعني، فأنا الوحيد الذي بقي ينتظر دون أن يعيدوا إليه جواز سفره، فأجبته بهدوء.
- نعم ، أنا هو.
- تعال معي.
بدا واضحاً أن المحققين قد تركوا غرفة القيادة على اعتبار أنهم فرغوا من مهمتهم، تبعت المحقق الذي ناداني، وإذا به يسألني:
- أين حقائبك؟
- إنها هناك.
أشار لبعض المسلحين أن يأخذوني معهم بعد تناول حقيبتي، فقلت له:
- انكم لم تسألوني؟
- حسناً سوف نسألك في مكان آخر.
أمسك بي كتائبي يرتدي قميصاً طبعت على صدره عبارة "الكتائب اللبنانية"، وهو شخص قصير القامة ممتلئ البدن قليلاً، توقعت أن يكون أسمه جورج لأنني سمعت من حوله في تلك الأثناء يتداولون هذا الأسم، وقد قال لهم:
- هذا يمني لا علاقة له بهم، أتركوه معي.
فسألته:
- أين ستأخذني؟
- ستشرب فنجان قهوة ثم تعود!.
تأبطني من ذراعي وهو يقتادني إلى رصيف الميناء، وبعض المسلحين يتبعوننا في الظلام، تحسس ساعتي ثم خاتم زواجي وسألني:
- أين النقود؟
وضعت كل ما معي من نقود في جيب قميصي على الصدر،ومن السهل عليه أن يجدها، إلا أنني أنكرت وجودها، فقال لي:
- كذاب، مسافر ولا تحمل نقوداً؟!
مد يده مباشرة إلى جيب القميص، وأخذ كل ما أحمله، ثم قال لي:
- إذا تحدثت بكلمة واحدة سوف أقتلك.
واستدار بي عائداً ليقول للمسلحين:
- أدْخِلوه.
أدخلوني إلى بناء مجاور، وراحوا يضربونني بالعصي وأكعاب البنادق والأيدي بدون توقف، حتى وجدت نفسي في غرفة يقف فيها كل الآخرين الذين تم احتجازهم، وتبدو على الجميع آثار الضرب الوحشي، الدماء تسيل من جروح في رؤوسهم، ووجوههم أصبحت متورمة، ومزرقة، ملابس معظمهم ممزقة وصدور بعضهم عارية.
قذفوني بين الآخرين، وانهالوا علي باللكمات، وبالعصي على رأسي وظهري، ركلوني بالأرجل، ضربوا بكل وحشية، كأنهم يفرغون أطناناً من الحقد الأعمى!.
لم أعد أحس بشيء، أدمن الجسد بسرعة فائقة ركلاتهم وضربات أعقاب بنادقهم، شعرت بقوة التحدي والصمود، تساوى الموت بالحياة، وامتلأ قلبي بالعنفوان وقررت أن لا أنحني.
أحس الجلادون بالكلل، تعبت أياديهم، جروني إلى صف المحتجزين، وصاروا يضربوننا الواحد بعد الآخر.
وقف ثلاثة من الحراس على باب الغرفة يشهرون بنادقهم باتجاهنا، سمعنا أصوات المسلحين في الخارج والجنود الآخرين يتدافعون محاولين الوصول إلينا، يمنعهم رقيب أنيطت به حراستنا، وهم لا يكلون عن محاولة إقناعه بالقضاء علينا.
أصبح ضغطهم عليه شديداً، مما جعله يعرض عليهم أن يدخلوا واحداً واحداً، وأن يكتفوا بضربنا، وهكذا راحوا يدخلون علينا الواحد بعد الآخر.
دخل المسلح الأول، وبدأ باستجواب أقرب واحد منا إلى الباب، ثم انهال عليه ليفرغ منه، بالانتقال إلى واحد آخر، وهكذا حتى دار على الجميع، فتبعه مسلح آخر، وبهذه الطريقة راحوا يتوالون علينا واحداً واحداً.
جاء دور مسلح لا يدل مظهره على أيه لياقة عسكرية، له شكل مدرس غبي منفوخ العضلات والجسم، وقد اختارني بالذات ليجرب فيّ عضلاته، بدأني بالسؤال عن اسمي، فلم أجبه. صرخ في وجهي ولم أجبه أيضاً، صممت على أن أوجه إليه أبسط أنواع الاستخفاف به وهو عدم الإذعان له، وجه لكمة قوية إلى معدتي، وانهال علي ضرباً، لكنني بقيت راسخاً أشعر أن وقفتي هذه كفيلة بإيقاع الهزيمة في نفسه مهما آلت إليه النتيجة.
استدار إلى الناحية الأخرى، موجهاً لكماته إلى شخص آخر، وهو يشتم العرب والفلسطينيين، وخرج من الغرفة لما تعب، ليحل مكانه جندي ملتح قصير القامة، وقف في منتصف الحلقة وراح يسأل باستعراض سخيف:
- من منكم يلعب كراتيه؟
ولما لم يجبه أحد، نظر إلى وليد وقال:
- أنت يبدو عليك أنك لاعب كراتيه.
لعله اختار وليداً بالذات لأنه أقل الموجودين وزناً، أمسك بوليد من شعره الطويل، واستجمع كل قوته ليهوي عليه بضربة عنيفة على وجهه المليء بالكدمات وبآثار الضرب السابق، ثم سأله:
- لماذا أتيت إلى لبنان؟
ولأن وليداً لم يجبه قال له أحد الحراس:
- جاء يفتش عن كباريه.
وضع الجندي رأس وليد بين يديه، وضربه بالركبة في وجهه، فجرح وجه وليد، ونزل الدم مرة أخرى من أنفه، ولم يتوقف الجندي عن مواصلة الضرب باللكمات، ولم يترك وليداً إلا بعد أن تعب وخرج.
نظرت إلى وجه وليد فوجدته قد ضرب بقسوة بالغة، مما جعلني لا أتمالك صبري، ووجهت حديثي إلى الحراس قائلاً:
- أنتم المسؤولون عن حراستنا، فلماذا لا توقفوا ضربنا؟.
نظر إليّ أحد الحراس باستغراب، وهمّ بالرد علي، ولكنه سرعان ما أشاح بوجهه عني.
تهيأ جندي آخر للدخول، لكن الرقيب سارع من خلفه قائلاً:
- ارجع حضر الرائد.
ولج الغرفة ضابط برتبة رائد، وراح يتفحصنا بعينيه واحداً بعد الآخر، سأل بعضنا عن اسمه وجنسيته، وكنت واحداً من الذين سألهم، وبعد أن استمع إلى أجوبة بعضنا هز رأسه وبدأ يلقي علينا حديثاً، قال فيه:
- أنتم تريدون إحراق لبنان، لأنه الحضارة، ولكننا نحن اللبنانيين سوف نحرقكم لأنكم الهمجية، أنتم العرب تمثلون الهمجية ونحن نمثل الحضارة، العروبة فكرة نحن الذين اخترعناها، ولكننا تركناها لأنها صارت تمثل الهمجية.
استغرق يتحدث عن حضارة مسيحيي لبنان، واصفاً إياهم بأنهم إنسانيون ومتحضرون ويدافعون عن وطنهم، وأكد من جديد أن كل من هو غير لبناني لن يخرج حياً. وعاد يتحدث عن العروبة وكيف أوجدها المسيحيون.
شعرت وهو يركز نظراته باتجاهي وكأنه يخاطبني مما دفعني إلى الرد حول فكرة العروبة.
فنظر إليّ مستغرباً أن أرد عليه، وتقدم مني ذلك المسلح الذي يبدو كمدرس غبي ليصرخ في وجهي:
- اخرس، عندما يتحدث الرائد أنت تسمع فقط.