كتاب " نهضات مجهضة جدل الهوية والفاعلية " ، تأليف محمد الشاويش ، والذي صدر عن دار الفكر للطباعة وا
أنت هنا
قراءة كتاب نهضات مجهضة جدل الهوية والفاعلية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
1
عمر مكرم : إرهاصات التحول إلى الفاعلية الجماعية
عمر مكرم شخصية لم تشتهر عند عامتنا، بل أظنها لم تشتهر عند مثقفينا، وإن كانت معروفة مشهورة عند المهتمين بالتاريخ الإسلامي والعربي الحديث؛ إذ كان من الشخصيات التي يشار إليها بالبنان في مصر قبيل الحملة الفرنسية وفي أثنائها، ثم في عصر محمد علي، وكان من الشخصيات التي يقولون عنها: إنها تصنع التاريخ، وعبارة: (يصنع التاريخ) تتضمن في جملة معانيها معنى (يصنع الدول) وإن كانت تزيد عن هذا المعنى كثيراً، بقدر ما يتضمن مفهوم (التاريخ) من مكونات تزيد عن مفهوم (الدولة).
وحين أراد ابن خلدون أن يكتب مقدمة كتابه في التاريخ (العبر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر) فإنه عد نفسه مؤسساً لعلم جديد هو "علم العمران"، وعد علم التاريخ مستنداً إليه، إذ التاريخ حقيقته "أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال".
عمر مكرم كان من صناع أساس التاريخ الذي هو (العمران)، وبالذات من صناع تلك المؤسسة الجوهرية في الاجتماع الإنساني، ألا وهي (الدولة)، ولكنه فيما أزعم لم يساهم في صناعة (دولة) بالمعنى المألوف المحدود فقط (هو ساهم في صناعة الدولة المصرية الحديثة عبر مساهمته الحاسمة في صناعة دولة محمد علي) بل ساهم في وضع أساس لدولة من نوع جديد تقوم في ديار الإسلام، وتكون عودة خلاقة إلى الدولة الأولى التي كانت دولة من المسلمين الأحرار، وليس من المستعبدين. لقد كانت أعمال عمر مكرم من الإرهاصات الأولى لمكون جوهري من مكونات النهضة الضرورية؛ ألا وهو مكون الجماعة الفاعلة الحرة، على نقيض ما كان عليه الوضع حتى عهده، وهو عبودية الجماعة وقطيعيتها تجاه السلطة.
حين نتكلم على دور الدين في تحويل العامة من كم متفرق من الذرات عشوائية الحركة، لا هدف لها ولا إرادة ولا هوية جماعية توحدها - إلى كيان واحد يحركه هدف واحد، ونظرة واحدة إلى مهمته في الحياة (في هذه النقطة يتفق مالك بن نبي - الذي يرى أن الدين هو الشرارة التي توحد عناصر الحضارة الأولية، وهو الذي يدفع إنسان ما قبل الحضارة، دفعته الأولى الجبارة لبناء الحضارة مع ابن خلدون الذي يرى أن الدعوة الدينية هي المكون الذي يحول العصبية إلى دولة) - فإننا في الحقيقة نتكلم على عامل جوهري من عوامل النهضة؛ ألا وهو عامل الجماعة الموحدة الواعية الفاعلة.
(الفاعلة): تعني أنها لا تتوحد نظرياً بعقيدة عامة تجمعها لفظياً فقط، شأن المسلمين في عصرنا في الغالب من حالاتهم، بل تعني الجماعة المتحركة التي يشعر فيها كل فرد أنه مسؤول عن مصير الجماعة، ومسؤول عن تحقيق هدفها، وتحويل رؤيتها للحياة إلى واقع.
وهذا ما لم يكن عليه الحال في مصر في أواخر العهد العثماني، فقد تحولت العامة إلى كم مهمل من الأفراد تتقاذفهم أرجل الظلمة؛ من العناصر المتحكمة بلا رادع من شرع أو قانون - ككرات جامدة لا إرادة لها، ولا قدرة على الدفاع عن الذات.
لقد فقدت الجماعة المسلمة العزة في عقر دارها، والله عز وجل يقول: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 63/8] ، أين ذلك الأعرابي ربعي بن عامر الذي بعثه الإسلام بعثاً جديداً فاخترق برمحه وثيابه المهلهلة بساط الأمير المغرور رستم في القادسية، ودعاه ودعا قومه للخروج من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
من هذا الفرد الخائف الذليل الذي استحال إليه المسلم "بعد عهد الموحدين" بتسمية مالك بن نبي؟
ويتذكر المرء - حين يرى حالة كهذه - نظرية ابن خلدون في اضمحلال العصبية وانكسار الشوكة الذي يصيب أهل الأمصار الذين لا يقوون على المحاماة عن أنفسهم، ويتولى المحاماة بالنيابة عنهم أهل السلطة والتحكم، الذين غالباً ما يأتون من عصبية خارجية قامت بتأسيس دولة لها، دورة حياة وصفها ابن خلدون في مقدمته الشهيرة.
ويقصد ابن خلدون - غالباً - بمصطلح (العصبية) في مقدمته: "الالتحام بالنسب أو ما في معناه"، وبالذات ذلك الالتحام الذي يقود إلى التناصر والاتحاد و"النعرة على ذي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم"، ولكنه يعمم نظريته ليقول: إن العصبية تقوى بالدعوة الدينية، بل "العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية"، فلا بد للجماعة الفاعلة سياسياً من عنصرين: (العصبية) و(الدعوة الدينية).