أنت هنا

قراءة كتاب نهضات مجهضة جدل الهوية والفاعلية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
نهضات مجهضة جدل الهوية والفاعلية

نهضات مجهضة جدل الهوية والفاعلية

كتاب " نهضات مجهضة جدل الهوية والفاعلية " ، تأليف محمد الشاويش ، والذي صدر عن دار الفكر للطباعة وا

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 7

وبالفعل عاد الشيخ الشرقاوي والشيخ السادات وكثير غيرهم، ورفض عمر مكرم العودة، فهاجم نابليون بلبيس بجيشه حيث كان عمر مكرم وإبراهيم بك وقواته، وبعد معركة أبلى فيها المماليك بلاءً حسناً مرةً أخرى، اضطروا للانسحاب أمام سلاح المدفعية الفرنسي، وغادر كل من عمر مكرم وإبراهيم بك مصر إلى غزة.

أما في القاهرة فقد قام نابليون بتشكيل ديوان يضم تسعة أعضاء، منهم الشيخان السادات والشرقاوي، وكان عمر مكرم أيضاً من جملة الأسماء التي سماها نابليون لعضوية الديوان، آملاً أن يغريه المنصب؛ فيعود ويتخلى عن مقاومته للاحتلال، ولكنه رفض كل تعاون مع الفرنسيين كما رأينا، وكذلك رفض الشيخ السادات عضوية الديوان، فعين عضو آخر في مكانه.

وحين وجد نابليون أن عمر لم يتعاون معه عزله عن منصب نقيب الأشراف، وصادر أمواله، وعين الشيخ خليل البكري مكانه، وكان هذا مثالاً سيئاً للانتهازي الأناني - كما تذكر المصادر - الذي لا يقيم حتى لكرامته الشخصية وزناً، إذ غمر نابليون بهداياه، ورضي لنفسه بعلاقة شائنة مع الفرنسيين، وصلت إلى حد أثار عليه سخط الشعب المصري واحتقاره.

تركزت المقاومة للفرنسيين في الصعيد، وساهم فيها المماليك والفلاحون والبدو، وقوة من المفيد أن نذكرها، فقد لا يتوقع القارئ وجودها؛ ألا وهي قوة المتطوعين من الحجاز ويسميهم الفرنسيون (المكاويون) نسبة إلى مكة، ويذكرهم الجبرتي في تاريخه: "لما وردت أخبار الفرنسيس إلى الحجاز وأنهم ملكوا الديار المصرية انزعج أهل الحجاز لذلك وضجوا بالحرم، وصار هذا الشيخ (وهو شيخ مكي اسمه الكيلاني.م) يعظ الناس ويدعوهم إلى الجهاد، ويحضهم على نصرة الحق والدين، وقرأ بالحرم كتاباً مؤلفاً في معنى ذلك فاتعظ جملة من الناس، وبذلوا أموالهم وأنفسهم، واجتمع نحو ست مئة من المجاهدين، وركبوا البحر إلى القصير مع من انضم إليهم من أهل ينبع وخلافهم".

وهؤلاء كانوا من المحاربين الأشداء الشجعان الذين أشاد بهم الجبرتي.

وممن ساهم في القتال ضد الفرنسيين جملة من المغاربة والأتراك، ومجاهد جاء من ليبية ولقب نفسه بالمهدي، وكان في مجموعة من رجال القبائل، قاتل بهم الفرنسيين، وانتصر عليهم في دمنهور التي أبيدت حاميتها الفرنسية، ثم هزمت النجدة التي أرسلها الفرنسيون، وكانت مزودة بأسلحة ثقيلة، ولعل هذه المشاركات العربية الإسلامية المهمة في مقاومة الفرنسيين مما يغفل ذكره عادة، ولا أعتقد أن سبب ذلك بريءٌ دائماً؛ إذ كان بعضٌ من المؤرخين للحملة الفرنسية لاحقاً ممن كانوا يرفعون شعار القومية المصرية، ويجتهدون في عزل مصر عن سياقها الديني والحضاري واللغوي.

بعد هذا تشجعت الدولة العثمانية، وقررت مواجهة الفرنسيين عسكرياً، بعد أن تدخل الإنجليز، وحطموا الأسطول الفرنسي في أبي قير، عازلين الحملة الفرنسية عن وطنها.

وثارت القاهرة ثورتها الأولى على الفرنسيين عام 1798م، وكان عمر مكرم منفياً في يافا، وكانت ثورة عنيفة اهتز لها نابليون، وصار يخشى من اقتراب الجيوش العثمانية التي كانت تتجهز في الشام للزحف على مصر، حيث سيقع بين نارين؛ نار الشعب ونار العثمانيين، فقرر مهاجمة الشام واحتل المدن الساحلية في سيناء، ثم غزة والرملة واللد، ووصل إلى يافا، فأخمد مقاومتها بعنف بالغ، ثم أمر بإعدام الأسرى، وبرر الفرنسيون هذا الإجراء الوحشي بأنهم لم يكونوا يستطيعون إطعام هؤلاء ولا إرسالهم إلى مصر!

أما عمر مكرم الذي كان في يافا فقد قبض عليه، ووجدها نابليون فرصةً للتقرب من الشعب المصري فأعاده إلى مصر في سفينة إلى دمياط، حيث فرضت عليه الإقامة الجبرية مدة ثلاثة أشهر، ثم عاد إلى القاهرة فاستقبله الشعب استقبالاً حافلاً، وكان نابليون يأمل أن يتعاون معه عمر فلم يفعل، واعتكف في داره، ولم يشهد أياً من المحافل والاحتفالات والأعياد التي كان يشارك فيها الفرنسيون.

وفي أغسطس من عام 1799م غادر نابليون مصر سرّاً، فخلفه كليبر في قيادة الحملة.

كان كليبر لا يؤمن بنجاح الحملة؛ فقرر التفاوض مع العثمانيين للانسحاب من مصر، وبالفعل وقع مع العثمانيين اتفاق العريش مطلع عام 1800م؛ الذي نص على انسحاب الفرنسيين خلال ثلاثة أشهر من مصر على أن يسمح لهم بالمغادرة بكامل أسلحتهم، وبضمان ألاّ يتعرض لهم أحد في الطريق إلى فرنسة، وقد ابتهج المصريون بهذه الاتفاقية وتبرعوا من أموالهم بكل سرور بالمبلغ الذي طلبته منهم السلطات العثمانية لتمويل رحلة عودة الفرنسيين إلى بلادهم، ولكن الإنجليز عارضوا الاتفاقية وقالوا: إنهم لا يوافقون على خروج الفرنسيين إلا بعد أن يسلموا أنفسهم باعتبارهم أسرى حرب، عندها تراجع كليبر عن الاتفاق، وهاجم الجيش العثماني الذي كان يتأهب لدخول القاهرة فهزمه في عين شمس، إلا فرقتين من الجيش العثماني لم تقاتلا، واتجهتا نحو القاهرة بقيادة الوالي العثماني الجديد على مصر نصوح باشا.

وكانت هذه هي النقطة التي بدأت منها ثورة القاهرة الثانية؛ لأن الشعب المصري انتهز فرصة انشغال الجيش الفرنسي، ولبى نداء عمر مكرم الذي خرج من اعتكافه ونادى بالثورة، فاقتحم الشعب المعسكرات الفرنسية واستولى على ما فيها من أسلحة، وتجمهرت العامة في الشوارع وبيدها كل ما وجدته من سلاح؛ من البنادق إلى السكاكين والعصي. وهكذا أقيمت المتاريس، ووقف عليها كل سكان القاهرة لم يكد يتخلف منهم أحد، ووقف مع العامة بعض أمراء المماليك وجنود وضباط العثمانيين من الفرقتين اللتين ذكرنا أنهما تركتا المعركة واتجهتا إلى القاهرة .

وحررت القاهرة عملياً، ولكن الجيش الفرنسي كان ما يزال بقوته على الأبواب.

وكان أول ما فعله كليبر بعد أن انتهى من العثمانيين؛ فرضُ الحصار على القاهرة، فتوقف إمدادها بالمواد الغذائية من الريف، وحتى نهر النيل ما عادوا يستطيعون الوصول إليه، فاعتمدوا على الآبار. وكان موقف المشايخ؛ مثل الشيخ السادات والشيخ الصاوي، وموقف العثمانيين والمماليك أيضاً موقفاً مشرفاً، وكان عمر مكرم مع المشايخ يطوف على المتاريس ويتجول في قلب المعارك الخطرة.

ومن الطريف أن العامة كانوا في غاية (التطرف) فحين طلب كليبر وفداً من المشايخ للصلح، عارضاً عليهم شروطاً منها: خروج العثمانيين والعفو عن المصريين وتأمينهم على حياتهم، وجاء وفد المشايخ وذكر هذه العروض للناس، كان ردهم بأن شتموهم ورموا عمائمهم على الأرض، واتهموهم بالارتداد وأن الفرنسيين رشوهم بالدراهم!

ومن المحتمل أن العامل الذي ساعد على رفض الشعب لأي مفاوضة تقود إلى إنهاء الثورة وبقاء الاحتلال الفرنسي هو، علاوة على كراهيته الشديدة للاحتلال، شعوره بالثقة بالنفس، وتقديره أن الفرنسيين في موقف ضعيف، خصوصاً مع انتشار الشائعات بقدوم جيش عثماني جرار، وأنه في طريقه إليه.

ولكن هذا التقدير لتوازن القوى كان غير صائب؛ إذ هاجم الفرنسيون ضاحية بولاق بالمدفعية وأحرقوها، وانتقموا من سكانها الذين كانوا قد وقفوا في وجه المدافع بشجاعة خارقة، فقتلوا منهم عدداً كبيراً في مجزرة وحشية جعلت زعماء الثورة في القاهرة يفاوضون كليبر، ويبرمون معه اتفاقاً نص على انسحاب العثمانيين والمماليك من القاهرة، وجلائهم عن مصر كلها. وهذا ما جرى بالفعل، وخرج مع العثمانيين عمر مكرم إلى الصالحية في الطريق إلى الشام.

ويعلل أحد مؤرخي حياة عمر مكرم؛ وهو الدكتور عبد العزيز محمد الشناوي في كتابه (عمر مكرم بطل المقاومة الشعبية) خروج عمر مكرم بأنه كان حتى ذلك الوقت "يربط كيانه السياسي ومستقبله بدعامتي الحكم العثماني اللتين تتمثلان وقت ذاك في الوالي والأمراء المماليك".

وهو يقارن بين موقف مكرم الذي خرج من القاهرة، وموقف الشيخ السادات الذي بقي فيها محتملاً الاضطهاد والاعتقال والتعذيب، يقول الشناوي: "حقيقة أن عمر مكرم لم يكن رجل حرب وحقيقة أنه لم تكن لديه الوسائل أو الإمكانيات كي يمنع عن الشعب انتقام الفرنسيين، وحقيقة أن الأوضاع السياسية في مصر كانت واحدة عند هجرته من مصر أول مرة وعند ارتحاله عنها في المرة الثانية، ولكن كان الفرنسيون في المرة الأولى يوادون المصريين رياء ونفاقاً، وكانوا في المرة الثانية يحادون المصريين جهاراً واستكباراً، ولا ريب أن بواعث هجرة عمر مكرم مع القوات العثمانية والمملوكية كانت هي نفس الأسباب التي حملته على الهجرة الأولى، لكن يضاف إليها في ضوء ملابسات الموقف أن عمر مكرم أراد في هجرته الثانية أن ينأى بنفسه عن انتقام الفرنسيين منه. ومن واجب الزعيم أن يقف إلى جانب الشعب في وقت المحن والشدائد، وأن يشاركه آلامه وأتراحه ... ولا ينفي هذا المأخذ أن حياته جاءت حافلة بصدقه الثوري مليئة بالشجاعة والنزاهة زاخرة بالنضال"[1].

والمقارنة مع السادات جديرة بالتأمل في اعتقادي، فهذا الشيخ وقف موقفاً مبدئياً صارماً، وتحمل اضطهاد الفرنسيين، فشابه مكرم في مبدئيته، وزاد عليه بأنه لم يتصور - على ما يبدو - إمكانية العيش في المنفى. ولكن من جهة أخرى سنرى لاحقاً أن السادات الذي كان في غاية المبدئية في وجه الأجانب، كان في غاية الانتهازية مع الحاكم المحلي أي محمد علي، بخلاف عمر مكرم الذي مثل الشعب حقاً وفعلاً، وصمد صموداً أسطورياً في وجه إغراءات الفساد وإرهاب الطغيان حتى النهاية.

الصفحات