أنت هنا

قراءة كتاب نهضات مجهضة جدل الهوية والفاعلية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
نهضات مجهضة جدل الهوية والفاعلية

نهضات مجهضة جدل الهوية والفاعلية

كتاب " نهضات مجهضة جدل الهوية والفاعلية " ، تأليف محمد الشاويش ، والذي صدر عن دار الفكر للطباعة وا

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 9

كان عمر مكرم صاحب الاقتراح بتولية محمد علي، وكانت هذه نقطة تاريخية حاسمة؛ إذ يولى الوالي بقوة الشعب لأول مرة في تاريخ مصر، لا بقوة السلطة العثمانية أو بقوة المماليك، ونلاحظ أن عمر مكرم ساير التقاليد التي كانت سائدة حتى ذلك الوقت؛ وهي تولية شخصيات عثمانية من خارج مصر، وكان الوالي عملياً يتم فرضه على السلطان الذي كان يصدر الفرمان بتعيينه، ولكن الذي كان يفرضه هو زعماء المماليك، ومن هنا كانت تولية محمد علي استمراراً ظاهرياً لتقاليد سابقة، وقطيعة فعلية معها. وتولية محمد علي على أساس شروط شعبية كانت واقعة لا سابقة لها؛ إذ لأول مرة تنصب العامة بأيديها والياً بناء على برنامج سياسي واضح، يهدف إلى تغيير الوضع الفاسد في جهاز الحكم في مصر.

ورفض خورشيد القرار متمسكاً بالقول: إنه هو الذي ولاه السلطان، ولن يترك منصبه إلا بأمر السلطان، واستعان خورشيد بالقوات العسكرية العثمانية، وبجزء من القوات الألبانية التي كانت تحت إمرة ضباط منافسين لمحمد علي، وبالدالاتية، وبدأ في مراسلة أمراء المماليك أيضاً.

ولا شك أن هذه القوة مجتمعة كانت تستطيع أن تهزم قوات محمد علي بسهولة لولا وجود هذه القوة الجبارة الجديدة التي يقودها عمر مكرم ومشايخ الأزهر، ألا وهي قوة عامة الناس في القاهرة الذين نصبوا المتاريس، وسهروا الليالي يحرسون ويتحركون من جهة إلى جهة، حتى إن القنصل الفرنسي العام دروفيتي قال: إن هذه المناظر ذكرته بباريس في أيام الثورة الفرنسية!

ومن الجدير بالذكر أن هذا الصراع لم يكن صراعاً قومياً، وكان العامة وقيادتهم معاً لا ينتابهم أي شك في ضرورة استمرار مصر ولايةً عثمانية تخضع للخلافة العثمانية في إستنبول، وإنما المسألة مسألة خلاف داخلي مع جهاز الحكم الفاسد في مصر، ومن الأمور ذات الدلالة أن العالم التركي - الذي كان يتولى منصب القضاء في مصر - رفض رفضاً باتاً مناصرة خورشيد، وأقدم على قطع العلاقات معه، واقفاً مع إرادة الأكثرية التي رآها بأم عينه. ومن المفيد لمعرفة نوعية ذلك الذي كان يسيّرُ الوعي قيادة العامة والعامة نفسها أن نذكر رد السيد عمر مكرم على واحد من أنصار خورشيد، جاء يتفاوض معه، وهو عمر بك الألباني، فقد سأله هذا: كيف تعزلون من ولاه السلطان عليكم، وقد قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 4/59] ؟ فقال له السيد عمر مكرم: "أولوا الأمر هم العلماء وحملة الشريعة والسلطان العادل، وهذا رجل ظالم، وجرت العادة من قديم الزمان أن أهل البلاد يعزلون الولاة، وهذا شيء من زمان، حتى الخليفة والسلطان إذا سار فيهم بالجور فإنهم يعزلونه ويخلعونه".

وفي اعتقادي أن هذا المستوى من الوعي الذي وصلت إليه العامة وقادتها في ذلك الوقت كان يمثل لبنة أساسية من لبنات الروح النهضوية الإسلامية الجديدة، وانبلاج نور فجر جديد بعد ليل السبات الذي دام بضعة قرون، انقضت في جور وفساد وتدهور للحالة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية في مصر، فيذكر المؤرخون ومنهم عبد الرحمن الرافعي أن مصر في العهد العثماني سارت خطوة إلى الوراء، قياساً إلى وضعها في عهد الدولة المملوكية المستقلة قبل مجيء العثمانيين.

وكان عمر مكرم في هذه الأيام في نشاط لا يهدأ؛ يزور المواقع ويحمّس العامة الذين كان لهم في الحقيقة الدور الحاسم في إسقاط خورشيد؛ لأن جنود محمد علي الألبان لم يكونوا متحمسين لقتال جنود خورشيد، إذ كان جنود الأخير معظمهم من الألبان أيضاً، بل إن جنود محمد علي انسحبوا من مواقعهم حين لم يستطع أن يدفع لهم رواتبهم، فقام العامة بأخذ مواقعهم، وليتهم اكتفوا بالانسحاب، بل إنهم بدؤوا بمهاجمة المنازل واستباحتها مستغلين خلوها من الحماة الذين كانوا في المعركة، فعادت بعض فرق العامة المكونة من رجال أشداء واشتهر منهم شيخ الخضرية في القاهرة حجاج الخضري،واشتبكت مع هؤلاء، وكانت حصيلة هذه المعارك الخلفية قتل ستين جندياً ألبانياً، فذهب محمد علي إلى عمر مكرم يرجوه أن يكف الناس عن جنوده، وتعهد بضرب عنق أي جندي يعتدي على الناس. فأرسل مكرم المنادين في شوارع القاهرة: "حسبما رسم السيد عمر أفندي والعلماء لجميع الرعايا بأن يأخذوا حذرهم وأسلحتهم ويحترسوا في أماكنهم وأخطاطهم وإذا تعرض لهم عسكري بأذية قابلوه بمثلها وإلا فلا يتعرضوا له".

وذكر فرنسيون شهدوا الأحداث عن كثب أن من شارك في تلك الهبة من السكان كانوا أربعين ألفاً، يطيعون السيد عمر مكرم طاعة عمياء وينفذون أوامره بحذافيرها.

ومن مظاهر العبقرية السياسية لعمر مكرم تعامله بمنتهى المهارة والدبلوماسية مع حركة قام بها السلطان العثماني في أثناء هذه المعركة، وهي أنه أرسل مندوباً معه مرسومان متناقضان: واحدٌ بتثبيت خورشيد والياً وإخراج محمد علي من مصر، وآخر بتثبيت محمد علي والياً وعزل خورشيد! وكلف المندوب بأن يقدّر على أرض الواقع من هو الأقوى ويظهر المرسوم المناسب! وهنا قرر عمر مكرم العمل على جلب المندوب إليه وإبقائه في وسط الجموع الحاشدة في القاهرة؛ لئلا يذهب أولاً إلى خورشيد، ونظم للمندوب استقبالاً حافلاً بحيث جعل شعب القاهرة بكامله يخرج لاستقباله والترحيب به، وحوصر خورشيد حصاراً محكماً فلم يستطع الخروج، بينما قاد (المرحبون) الضيف إلى بيت محمد علي، حيث كان عمر مكرم والمشايخ مجتمعين، فلم يجد المندوب بداً من إخراج المرسوم القاضي بعزل خورشيد وتثبيت محمد علي، وكان هذا ضربة قاضية لشرعية خورشيد.

وبإعلان مرسوم تثبيت محمد علي اقترح شيخ الأزهر عبد الله الشرقاوي والشيخ محمد الأمير، ومشايخ آخرون أن يلقي الشعب السلاح، وتفتح الأسواق، وتستأنف الحياة العادية، وأيد محمد علي هذا الاقتراح، ولكن عمر مكرم وقف ضده؛ لأن خورشيد ما زال معتصماً بالقلعة ورافضاً تنفيذ المرسوم، وكان ما يزال متصلاً مع قوى عسكرية مهمة ممثلة في المماليك وجيش علي السلحدار في مصر القديمة والجيزة، علاوة على قواته في القلعة، وكان من الممكن لو ألقى الشعب سلاحه أن يعود فينقض على السلطة دافعاً السلطان إلى إعادة تنصيبه من جديد، ومن المفيد أن نلاحظ في هذه اللحظة التاريخية أن عامة القاهرة هي التي ناصرت رأي عمر مكرم، إذ إن بعض المشايخ نادوا في المدينة بالأمان واستئناف البيع والشراء، وترك حمل الأسلحة في النهار والاقتصار على حملها في الليل، فرفض العامة هذا النداء، إلا قلة منهم استجابت لنداء المشايخ ففتحوا المحلات ورموا الأسلحة، فما كان من الجنود إلا أن عاودوا اعتداءاتهم! وحين ذهب المُعتدَى عليهم إلى السيد عمر يشتكون، طلب منهم الذهاب إلى الشيخين الشرقاوي والأمير فهما صاحبا الرأي بترك السلاح!.

وأخيراً أرسل السلطان حملة إلى مصر تتألف من ألفين وخمس مئة جندي، نزلت في الإسكندرية ومعها مرسوم بتثبيت محمد علي "حيث ارتضاه الكافة والعلماء"، ومرسوم آخر يطلب من خورشيد النزول من القلعة والذهاب إلى الإسكندرية.

وفي هذا الوضع الدقيق بادر عمر مكرم فعرض على خورشيد أن ينزل إلى داره، ويحميه هو من غضب العامة حتى يذهب إلى الإسكندرية، وطلب عمر مكرم في الوقت نفسه من الشعب الاستمرار في الحذر "لأن القوم لا أمان لهم".

وأخيراً نزل خورشيد بالفعل في دار عمر مكرم، ثم غادر مصر إلى غير رجعة، واستلم محمد علي الولاية التي كانت في بدايتها مبنية على ميثاق من الشروط التي ذكرناها، والتي تحد من سلطته وتفرض عليه العدل وعدم فرض ضرائب إلا باستشارة العلماء. وسنرى بعد قليل كيف تخلص محمد علي من الزعامة الشعبية ليحكم مصر حكماً استبدادياً مطلقاً.

وقد كان لعمر مكرم مع زعماء الأزهر ومن خلفهم وتحت قيادتهم جماهير العامة الدور الجوهري في تثبيت محمد علي في حكم مصر، سواء ضد قوة المماليك التي كانت قادرة على إزاحته، لولا هذا الدور الجوهري للشعب المنظم المسلح ذي القيادة الواعية التي كانت حتى ذلك الوقت متحدة الصفوف، أم ضد محاولات العثمانيين نقلَ محمد علي من ولاية مصر إلى سالونيك، وتعيين وال آخر بدلاً منه في مصر.

الصفحات