كتاب " المغمور من أديان الشرق الأوسط " ، تأليف د.
أنت هنا
قراءة كتاب المغمور من أديان الشرق الأوسط
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
( أ )
بقي الشرق الأوسط عبر القرن الزائل وسنوات القرن الجاري المبكرة إقليمًا إشكاليًا ومصدرًا للمشاكل بقدر تعلق الأمر ببقية أجزاء العالم: فهل يمكن أن ترد هذه الحال إلى ثرواته الطبيعية الكبيرة التي أشغلت العالم الصناعي وأرَّقت حكوماته لعقود؟.. أم أن الأمر يمكن أن يرد أساسا إلى موقعه الإستراتيجي، الكائن في قلب خارطة العالم على نحو التحديد؟.
قد يكون هذا استفهاما عصيًّا على الإجابة الدقيقة، خاصة عندما يتداخل العاملان أعلاه مع بعضهما. من ناحية أولى، بقيت الموارد الطبيعية المبطونة في أراضي دول الإقليم الفتية تتواشج مع مخزونات النفط والغاز العملاقة؛ المادتان الحيويتان الضروريتان لجميع الأنشطة الاقتصادية بلا استثناء. بيد أن على المرء أن يتأنى ليتذكر أن الموارد الطبيعية إنما هي اكتشاف متأخر نسبيًا بحسابات التاريخ الأوسع، لأنها لا يمكن أن تتجاوز ما قبل العقود العشرة الأولى للقرن العشرين.
لم يكن النفط عمليًا ذا قيمة قبل أن تضطلع الشركات الأوربية باستكشاف مخزوناته. بقي النفط الخام ينبعث من باطن الأرض إلى سطحها على نحو طبيعي، بينما جعل سُكَّان كركوك في العراق، على سبيل المثال، يستعملون هذا السائل الأسود الكثيف المنبعث من البواطن علاجًا لأمراض الجلد عند الحيوان، أو لمجرد إحراقه، الأمر الذي كان يؤدي إلى تلويث البيئة على نحوٍ لا مبالٍ، منطوٍ على سذاجة. لقد شاعت هذه الاستعمالات البدائية للنفظ الخام عبر الإقليم برمته، فليس فيه من يدَّعي أنه كان أكثر معرفة أو حكمة في استعماله. إنها لمن المفارقات الطريفة أن سُكَّان الدول الغنية بالنفط اليوم بقوا يجهلون أهمية هذا السائل الكثيف "الغامض" القابل للاشتعال بل ويجهلون حتى قيمة الأرض التي تبطتن مخزوناته الأسطورية، غير واعين بأنه كان "ذهبًا"، ولكنه ذهب ذو لون أسود.
على أعتاب القرن العشرين، كانت دول مهمة اليوم؛ كالعراق والمملكة العربية السعودية وإيران ودول الخليج العربي؛ ذات أهمية أدنى مما هي عليه اليوم بالنسبة لبريطانيا وفرنسا وألمانيا ما بعد بسمارك. هذه الأهمية الضئيلة هي التي كمنت خلف الرسم الاعتباطي للحدود البينية بين دول الإقليم، ذلك الرسم الذي تمَّ بعد الحرب العالمية الأولى، بلا ما يشير إلى توقع واضح المعالم بثمة ثروات معدنية وفيرة، ممكنة الاستغلال، تكمن في أراضي هذه الدول. إذا ما أجرى المرء مسحًا عينيًا مبسطًا لخارطة الشرق الأوسط اليوم، فإنه لابد أن يطور انطباعًا يفيد بأن الراحلين، "سايكس" Sykes و "بيكو" Picot اللذين رسما خطوط الحدود بين هذه الدول الفتية الواقعة في قلب الشرق الأوسط لم يكونا بحاجة لأكثر من "مسطرة" مجردة لرسم هذه الحدود تأسيسًا على اعتبارات مصلحتي بريطانيا وفرنسا آنذاك، بضمن سياق كولونيالي تنافسي أوربي، وحسب معطيات تفوقهما حقبة ذاك، بغض النظر عن تطلعات وآمال الشعوب التي تقطن الإقليم.
ومن ناحية ثانية، لعبت مركزية الشرق الأوسط الجغرافية بين الشرق والغرب، كبؤرة التقاء خطوط المواصلات العالمية، دورًا مهمًا كذلك بقدر تعلق الأمر بذات التنافسات الكولونيالية والاستحواذية بين الإمبراطوريات الأوربية، ومنها، زيادة على بريطانيا وفرنسا، البرتغال وإسبانيا وإيطاليا. في هذه الحقبة، تبلورت أهمية الشرق الأوسط في موقعه المركزي بين أوربا وبين مستعمراتها عبر الشرق الأقصى وأفريقيا. ولا يقل عن أهمية الموقع الوسطي للإقليم بالنسبة للندن وباريس خاصة، هي تلك الممرات المائية الإستراتيجية نحو الشرق الأقصى ونحو شبه القارة الهندية التي بقيت ردحًا طويلاً من الزمن "ماسة التاج" البريطاني، ناهيك عن حقيقة أن امتدادات الشرق الأوسط الغربية عبر شمال أفريقيا إنما كانت تشكِّل معبر فرنسا لأفريقيا ولمجاهل الأقاليم الشاسعة جنوبي الصحراء الكبرى، عشق باريس التاريخي.
كمنت هذه الأهمية الإستراتيجية لموقع الشرق الأوسط وراء إطلاق الجنرال نابليون بونابرت حملته التاريخية الشهيرة على مصر، مدشنًا مرحلة تنافس كولونيالي جديدة قادت إلى تغييرات كبيرة عبر الإقليم بإطلاق تحولات اجتماعية تسلسلية عمادها التفاعلات السببية التي غمرت بمعطياتها الشجاعة الإقليم بأسره فيما بعد، زيادة على ما تبع ذلك من حروب ومن اشتداد التنافس بين بريطانيا وفرنسا لبسط هيمنتهما على الممرات المائية الإستراتيجية. انطلقت آمال الجنرال الفرنسي من خطة قطع الطريق على بريطانيا في سبيل إعاقة الوصول إلى أثمن "ممتلكاتها"، الهند، ناهيك عن خطة بونابرت لوضع حدّ لنجاحات بريطانيا الكولونيالية عن طريق بسط الهيمنة الفرنسية على مصر بهدف إرباك الاندفاع البريطاني نحو "وليمة الاستعمار" التي لفتت انتباه الدول الكبرى فيما بعد، خاصة بعدما ركزت طاقاتها للسيطرة على قناة السويس وسواها من الممرات المائية الطبيعية، إذ اكتشف العقل النفعي البريطاني المعروف ببُعد النظر الأهمية القصوى والحاسمة لبسط هيمنته على مضيقي عدن وهرمز، إضافة إلى ضرورات إيجاد موطئ قدم على مفاصل المسارات الدولية الإستراتيجية ومحطاتها النهائية، كما كانت عليه الحال في اهتمامها بالبصرة المطلة على رأس الخليج العربي بالقرب من نقطة التقاء الرافدين، دجلة والفرات، جنوبي نقطة "القرنة" لتكوين شط العرب، وهو الآخر من أهم الممرات المائية. شكَّل النهران العظيمان أعلاه طريقًا مائية إضافية تمتد من دواخل هضبة الأناضول إلى الخليج العربي، ثم إلى مسقط، ومن هذه المدينة المهمة، إلى رأس الرجاء الصالح من ناحية وإلى جُزر جنوب المحيط الهادي حيث كانت فرنسا تحقِّق تفوقًا ملموسًا تبتز به سواها من الدول الأوربية على نحو سريع حقبة ذاك.
تصاعدت التنافسات الكولونيالية الغربية حتى بلغت ذروتها في الحرب العالمية الأولى بسبب تشبث ألمانيا الموحدة بدخول السباق الكولونيالي، ملتحقة بالركب البريطاني/الفرنسي القديم المندفع نحو التوسع، إمَّا بالضم وإمَّا بفرض سلطات الانتداب. وهكذا راحت ألمانيا الموحدة الجديدة، وعلى نحو معاكس لرؤى موحِّدها المستشار أوتو فون بسمارك (1805-1898)، تميط اللثام عن حلم إمبراطوري عبر الإعلان عن خطة مشروع مواصلات عملاق، عُرِف بمشروع (ب/ب) (B/B)، لربط برلين ببغداد بواسطة خط سكك حديد عملاق، وهو الأمر الذي أثار حفيظة بريطانيا من ناحية، وتسبب بتوتر العلاقات مع فرنسا، من ناحية ثانية، حيث كرَّس ذلك سعي باريس ولندن لتشديد قبضتهما على ما سبق وإن فرضتا عليه الهيمنة من بين البقاع المترامية في الشرق الأوسط وفي سواه، خاصة وأن خط حديد بغداد برلين بدا قابلاً للاستطالة حتى البصرة على رأس الخليج العربي، منوهًا إلى مطامح ألمانية لا محدودة.
بدأت تعابير هذه التنافسات الأوربية حتى قبل انهيار الأمبراطورية العثمانية (الرجل المريض) وما تلاه من تقطيع لأوصالها، إذ دخلت القوى الأوربية العظمى جميعًا في حرب خفية من أجل النفوذ عبر أقاليم أو ولايات الإمبراطورية العثمانية بواسطة الأذرع الدبلوماسية والأنشطة التجارية، زيادة على توظيف التجسس الذي تركز بث العيون في المراكز الحضرية الرئيسة مثل بغداد وبيروت والبصرة ودمشق والموصل وحلب، زيادة على مدن آسيا الصغرى. لقد ترك التجسس وما تخلله من شراء ذمم واستمالة للسُكَّان المحليين بصمته على طبيعة هذه الحرب الأوربية - الأوربية الخفية، فساعدت عليه جهود الرعايا الأوربيين الذين وضعوا أقنعة التُجَّار والمبشرين والدبلوماسيين والمنقبين الآثاريين، من بين سواها من الأقنعة على سبيل المرور دون ملاحظة السلطات العثمانية والسُكَّان المحليين.