كتاب " المغمور من أديان الشرق الأوسط " ، تأليف د.
أنت هنا
قراءة كتاب المغمور من أديان الشرق الأوسط
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
( ج )
في الوقت الذي كان الجمهور يشاهد فيه السجَّان وهو يلف حبل المشنقة حول رقبة الرئيس السابق "صدام حسين" وكأنه يشد ربطة عنق حولها، كانت شعوب الشرق الأوسط تدشِّن فصلاً جديدًا من تواريخها، وهو فصل القادة القتلى والرؤساء المتقاعدين الذين سرعان ما تبعهم قادة آخرون من هؤلاء الذين لم يكونوا بأقل من صدام حسين ومن زميله القتيل معمر القذافي طغيانًا. أما القادة المتقاعدون الذين نجوا من المشنقة أو من مصير القذافي الذي ظفر به الجمهور الغاضب فقتله بوحشية وبلا رحمة، بعد أن حكمه لما لا يقل عن أربعين سنة، فقد وجدوا ملاجئًا لهم في دول أخرى دأبت على توفير ملاجئ آمنة للقادة المخلوعين ولعوائلهم. والحق يقال، فإنه ليس هناك من هو متيقن من قدره تمامًا في إقليم الشرق الأوسط الملتهب وغير المستقر، قادة ومواطنين على حدٍّ سواء.
لقد وضعت التفاعلات والانتفاضات الساخنة التي أطلق الإعلام عليها عنوان "الربيع العربي"، تعسفًا، حدًّا لغياب الهدف والتيقن عبر الشرق الأوسط، ذلك الغياب الذي طال ما لا يقل عن تسعة عقود بلا انقطاع من حكومات الطغاة المتتالين. إنهم الطغاة الذين ما فتئوا يشيعون حلمًا سلفيًا وسيطًا، حلمًا يعتمد نقدًا انكماشيًا متعاميًا بالرجوعية حيال كامل التجربة الحديثة في التطور والتقدم، بوصفها تجربة غريبة مستوردة، "لا توائمنا"، بمعنى أنها لا تصلح للأقوام التي يمتطيها التاريخ، تلك الأقوام القاطنة في إقليم حائر بين حقبتين، الأولى لا تموت، متجسدة بحلم الأسلاف الطللي، بينما تنكمش الثانية من أضواء آفاق الحاضر والمستقبل الواعدة.
ومع هذا، فقد كشفت نهايات الرؤساء القتلى المأساوية، التي تبعها ظهور ما نطلق عليه "نادي القادة المتقاعدين"، كشفت للجمهور جميعًا آفاق عالم جديد، عالم متحرر من المحرمات التي بقيت ممنوعة حتى وقت قريب. لذا انطلق الكُتَّاب والمفكرون للتعبير عن رفضهم للشمولية، لحظة إزالة الاضطهاد، بعد أن كانت احتجاجاتهم مكبوتة على نحو غير مرئي لعقود سابقة. لقد ولّدتْ التغيرات الجذرية السريعة عبر دول الإقليم، التي بقي العديد منها في حال من التحجر لدهور بعيدًا عن التغير، رد فعل فكري انتقامي ثأري: فبدا الأمر وكأنه حال من الانتشاء لحظة شعور المرء بأنه حُرٌّ لاستشكاف الموضوعات والقضايا التي بقيت ممنوعة أو محرَّمة لزمن طويل.
تأسيسًا على وعي الأنظمة الشمولية الوسواسي بأن سلطاتها تعتمد في بقائها على وضع أقنعة التدين الإسلامي، فإنها قد عمدت إلى تصميم هذه الأقنعة حسب الأغراض الانتهازية المطلوبة، باعتبار ما تحتضنه غالبية شعوبهم من معتقدات دينية. وبهدف أن يتم النظر إليها بوصفها "راعية للدين الإسلامي"، تستمد سلطتها من هذه الرعاية في سبيل حماية الدين الرسمي والدفاع عنه، توسلت هذه الأنظمة الشمولية ردود أفعال انفعالية غير متأنية في تعاملها مع التقاليد الدينية الثانوية ومع الجماعات والجمعيات التي لا تستجيب لقواعد الدين السائد، أي دين الدولة الرسمي. في العراق، على سبيل المثال لا الحصر، صدرت قوانين وتشريعات تقضي بإنزال عقوبة الإعدام بالأشخاص الذين يعتنقون الديانتين البابية والبهائية، وبهؤلاء الذين ينتمون لنوادي الأسود Lions أو لنوادي الروتاري Rotary، بافتراض أنها جمعيات مضادة للأديان، ذلك أن تجاهل هذه النوادي أديان الأعضاء عُدَّ اسلوبًا يمهد الطريق لاستبدالها بدين "كوني" لا يؤمن بالله، حسب بلاغيات الصحفيين والإعلاميين التي وُظِّفت على نحو مركز لتمرير مثل هذه القوانين "القاتلة". لقد لعب الإعلام دورًا قويًا لإشاعة وتثبيت قناع "حامي الدين" أو "القائد المؤمن" للحاكم الشمولي بين الجمهور المسكين من خلال تبرير مثل هذه التشريعات والفتاوى والإعدامات، كما فعل بعض الصحفيين العراقيين من الذين عملوا على تبرير أحكام محكمة عسكرية، عُرفت باسم "محكمة الثورة"، كانت قد أصدرت أحكام إعدام عديدة، فأرسلت أعضاءً سابقين في الماسونية ونوادي الروتاري للمشانق، زيادة على إعدام آخرين بُتهم متنوعة كالتجسس. الطريف في الأمر هو أن أحد هؤلاء الصحفيين وقد كان عضوًا في الحزب الشيوعي سابقًا قد أصدر العديد من المقالات والكراسات متهمًا النوادي والمنظمات أعلاه بالعداء للأديان والإلحاد، باعتبارها تهدف إلى إبعاد المؤمنين، مسلمين ومسيحيين، عن أديانهم الأصل، فكانت هذه من غرائب إقليم المفارقات في عصور الفوضى واللا يقين.
لقد بدا هذا المنطق الجارف قابلاً للتطبيق على الأقليات الدينية التي تختلف معتقداتها الروحية مع معتقدات دين الدولة الرسمي، أي مع معتقدات الأغلبية التي لا يُحسِن تمثيلها وحراستها سوى الحُكَّام "بأمر الله"! وكدليل على انتهازية مثل هؤلاء الحكام، فقد عمدوا إلى إصدار قوانين لا تقل قساوة وظلمًا، درجة الإعدام أحيانًا، بهدف محاربة أحزاب إسلامية، لا تمت للبهائية أو للماسونية بصلة، كما حدث بالنسبة لجماعة الإخوان المسلمين في مصر وسوريا، ولأعضاء حزب الدعوة الإسلامية في العراق، من بين أحزاب إسلامية أخرى.