كتاب " المغمور من أديان الشرق الأوسط " ، تأليف د.
أنت هنا
قراءة كتاب المغمور من أديان الشرق الأوسط
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
( ب )
رادف الشرق الأوسط في الثقافتين المحلية والعالمية (5) ما يُسمى بـ"التقليد الديني اليهودي/المسيحي" ردحًا طويلاً من الزمن. وقد تعزَّز هذا الترادف بإضافة الاسلام، خاصة بعد الاندفاع الكولونيالي الأوربي نحو آسيا وأفريقيا في القرنين التاسع عشر والعشرين، إذ ربط الإسلام بذات التقليد التوحيدي أعلاه فعُدَّ امتدادًا له بسبب التشابه بينه وبين تلك الأديان التي أحيلت أصولها جميعًا إلى الأقوام السامية. لذا شعر الباحثان هولت PM Holt ولويس B. Lewis بامكانية دمج الإسلام بهذا التقليد لتشكيل ثالوث ديني شامل تتآصر فروعه بعقيدة الإيمان بتوحيد الرب وبالانتساب للعنصر السامي. هذا هو ما أجاز توظيف تعبير "التقليد الديني اليهودي/ المسيحي/ الإسلامي" في الدراسات الدينية والاستشراقية. وبدمج الإسلام، الذي بقي إشكالاً غربيًا مستديمًا لقرون منذ العصر الوسيط حتى اليوم. بهذا التقليد الخاص بالأقوام السامية، تكبَّل المفهوم الغربي للشرق الأوسط بهذا المنظور المرتكن إلى تقليد ديني، باعتباره مهدًا وموطنًا للأقوام السامية التي يتواشج تاريخها بتكون هذه الأديان وانتشارها. وقد تبلور هذا الوعي شبه الهاجسي "بسامية" شعوب الإقليم في أدب الرحلات المبكر، أي في الحقبة الذهبية لشيوع أسطورة الجنس الآري في أوربا. لقد سطَّر أحد عمالقته المبكرين، المستشرق تشارلس دوتي، المذكور أعلاه، هذه الفكرة في رسالة شخصية لأحد مجايليه من المستشرقين على نحو لا يقبل اللبس، إذ كتب يقول:
" لم أتوخ من وراء تأليفي مجلدات "الصحراء العربية" عرض جولاتي بين ظهراني شعب سام ذي أهمية أنجيلية، بقدر ما توخيت هدف استئناف الجهد المثالي لتقليد الشاعرين تشوس وسبنسر". (6)
وتناغمًا مع قرن هذا الإقليم بذات التقليد الديني للأقوام السامية، عبّر لسان حال حركة أوكسفورد The Oxford Movement، الكاردينال نيومان Newman ( 1801 - 1890 ) عن ذات التآصر بقوله أن " القدس هي منبع المعرفة الدينية، بالضبط كما أن أثينا هي منبع المعرفة العلمانية" (7) بضمن سياق أطروحته المهمة التي تصبُّ في خلاصة أن علم اللاهوت يسمو على جميع العلوم والأنظمة المعرفية الأخرى، في تفاصيل مشروعه لتأسيس جامعة كاثوليكية في شمال إيرلندا، ذلك المشروع الذي وضع نيومان فلسفته التربوية في كتابه الفذ (فكرة الجامعة - The Idea of a University ).
حيال هذا المفهوم الغربي القديم المرتكن إلى قرن الشرق الأوسط بأديان الأقوام السامية التي أشرنا إليها، يتوجب على المرء، في سبيل كسر القيود التقليدية السابقة التي أرساها المستشرقون، أن يحاول الظفر بمنظور مختلف يباشر به ديانات شعوب الشرق الأوسط الأخرى على نحو يلقي بالشكوك على تيقنات المستشرقين. تشكك الباحثة "كارين آرمسترونغ"، المعروفة بـ"مؤرخة الرب"، باعتبار عنوان كتابها المهم المعنون (تاريخ الله) A History of God، بتواشج عقيدة التوحيد بأديان الشرق الأوسط السامية الرئيسة عبر رصد معتقدات توحيدية قديمة للغاية وتتبعها، ليس إلى ذات الأقوام السامية، كما هو شائع، وإنما إلى "قبائل أفريقية أصلية" (8) أي إلى قبائل بدائية كانت قد تأملتْ التوحيد كفكرة، فأطلقتْ على الخالق الواحد اسم "إله السماوات" the god of the skies. بيد أن هذه القبائل ما لبثت وأن أخفقت في التمسك بهذه الفكرة والمحافظة عليها حتى عصرٍ تالٍ، عصر شهد "شخصنة" الرب هناك، فالشخصنة (أي التجسد على نحو شخص) إنما تستتبع تعدد الآلهة على نحو تلقائي. لذا تقودنا فرضية أرمسترونغ إلى قناعة مفادها أن عقيدة التوحيد لم تكن حكرًا على الأقوام السامية التي قطنت الشرق الأوسط، كما ساد الاعتقاد طويلاً، باعتبار أن "فكرتنا عن الرب قد ظهرت تدريجيًا قبل حوالي 14000 سنة". (9)
لذا يمكن للمرء أن يحرِّر نفسه من المُسلَّمات الغربية التي عُدت من البديهيات، خاصة بعد أن يطلِّع على تواريخ شيوخ المؤرخين المسلمين من هؤلاء الذين حبّروا تواريخهم عبر العصر الوسيط من أمثال المسعودي الذي يفاجئنا تاريخه (مروج الذهب) بحقيقة قد تكون صادمة، مفادها أن الشرق الأوسط كان بيئة خصبة لظهور المتنبئين، بمعنى أدعياء النبوة من هؤلاء الكهنة الذين إدعوا أنهم "رُسلٌ من الله" قبل ظهور الإسلام (10). لذا تؤشِّر القائمة المطولة من أسماء وقصص أدعياء النبوة التي يوردها المسعودي، من بين مؤرخين آخرين، الخطوط الزئبقية المختلطة التي يفترض أن تفصل بين شخوص الكاهن والساحر والناسك والشاعر من ناحية، وبين النبي (حسب المفهوم الإنجيلي ومن ثم الإسلامي) من الناحية الثانية. وباعتبار هذ الاختلاط؛ فإن ظهور النبي محمد (ص)، سوية مع سواه من أنبياء الكتاب المقدس الذين تتبع نسبه إليهم، لم يكن ظاهرة فريدة في تاريخ إقليم شهد ظهور العديد من الأنبياء والرسل، إضافة على أدعياء النبوة، إقليم كان مسكونًا بأنواع الآلهة والغيبيات. إنه لمن المفيد أن يلاحظ المرء، على سبيل توكيد ما مرَّ ذكره، أنه لحظة لفظ محمد (ص) أنفاسه الأخيرة، برز عدد من أدعياء النبوة، ذكورًا وإناثًا، بدعوى إكمال رسالته أو بدعوى نسخها لتقديم دين جديد. لقد بدت هذه الظاهرة للمسلمين الأوائل بدرجة من الخطورة في تاريخ الإسلام أنها استتبعت ما سُمي بـ"حروب الردة" في جزيرة العرب لإعادة المرتدين إلى الدين القويم. وقد بقيت فكرة ترادف "الرؤى" بالفرد حاسمة في هذا السياق. ربما كان هذا الاختلاط وراء ما أشيع بين العرب عن انزعاج الرسول الكريم (ص) بما أشاعه المشركون من تُهم الكهانة أو الشاعرية في بداية إطلاق التبشير برسالته. (11)
وقد لاحظ كل من المؤرخ الأميركي واشنطن إرفنغ Washington Irving ( 1783 - 1859 ) والفيلسوف الأسكتلندي توماس كارلايلThomas Carlyle ( 1795 - 1881 ) التقاليد الدينية المرتبكة والمختلطة التي سادت بلاد العرب والشرق الأوسط قبل الإسلام، على سبيل تبرير ظهور الإسلام (12). ملاحظًا أن اليهودية والمسيحية قد حُرفتا عن عقائدهما الأصلية (13)، نظرًا لأن مجرد وجودهما سوية، مع وجود معتنقي العبادات الوثنية والشركية، إنما قد جسَّد ضرورات ظهور الإسلام.
بيد أن السؤال الأهم في سياقنا هذا، هو: أين ذهبت هذه العبادات والأنظمة الروحية القديمة؟ هل تلاشت في الفضاء ببساطة؟ أم أنها ضمت عقائدها إلى عقائد روحية لتقاليد دينية قديمة لتعاود الظهور كديانات تركيبية أو توفيقية؟
لذا فإن للمرء أن يزعم، بما يكفي من التيقن، أن العالم الغربي كان موهومًا، باحتضانه مفهومًا خاطئًا عندما تمسك بقرن الشرق الأوسط بالأديان الكبرى الثلاثة، لأنه قد أغفل بذلك تقاليد غابرة لديانات بقيت خارج فضاء اليهودية والمسيحية والإسلام، تقاليد عصت على الإذابة أو الإستحالة. كانت هذه ديانات افترض البعض أنها تدعو لعبادة أرباب سوى الرب الحق الذي تؤمن به الأديان الثلاثة الرئيسة، لأنها أديان حافظت على مفاهيمها ومنظوراتها الخاصة بـ"الخالق".
ينطوي هذا المفهوم المسبق غير الدقيق حول هذه الأديان ضمن سياق مناقشتنا هذه على الانحياز وعلى اعتماد معيار واحد ومفاهيم قسرية. لذا لايمكن وضع أغلب الديانات الثانوية في الشرق الأوسط في صنف الديانات التوحيدية سوية مع اليهودية والمسيحية والإسلام، على الرغم من أن هذه الديانات لا تشكِّل سوى "الرأس المنظور" من غاطس جبل الجليد الذي يكمن على تاريخ غائر في القدم لأقوام كانت قد استقرت بهذا الإقليم ثم تركت تراثها العقائدي والروحي والنفسي الجمعي، رواسبًا، في دواخل عقول وتقاليد جماعات عرقية معينة على نحو عقائد وتقاليد وطقوس لم تزل باقية عبر الإقليم حتى اللحظة، متعايشة سوية مع الأديان الرئيسة.
ولكن على الرغم من أن خطة هذا البحث لا ترنو إلى بحث جميع هذه الديانات فانها تضطر لأن تقسِّمها، تأسيسًا على أصولها، على صنفين:
1- الأديان التي لاصلة لها ولم تتأثر بالأديان الرئيسة الثلاثة، أي اليهودية والمسيحية والإسلام، وهي الأديان التي نسلِّط الضوء عليها في هذا البحث مثل أديان أهل الحق والمندائيين واليزيديين.