أنت هنا

قراءة كتاب بلا بوش

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
بلا بوش

بلا بوش

كتاب " بلا بوش " ، تأليف عبد الرحمن الهويش ، والذي صدر عن مؤسسة شمس للنشر

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
الصفحة رقم: 1

الأب ( شلش المرهون )(1)

احتضنتني بقوة، لفَّتْ ذراعاها البضان الممتلئتان حول ظهري، شعرت بها تختلط بي، تضارسينا تتداخل، أجزاؤها تندمج بأجزائي، إنها تشدني إليها بقوة، تتداخل بين ثناياي، شوقي إلى لياليها عارم، أخفيته طويلاً لكنه ينساب مثل خرير ماء طال إهماله، وتجمع بين جدران بالون رقيق، لن يوقفه شيء ساعة اندلاقه حتى تنزل آخر قطراته.

ـ جواهر...

ناديتُها كما لو أنها كانت بعيدة، لم تجبني.. أردت أن أكرِّر مناداتها، لكنني تذكرتُ، صحتُ :

ـ هنادي...

كان هذا اسم شهرتها الذي تحبه، وهو اسمها الذي يناديها به معظم من عرفها؛ شأنها شأن بقية الغجر؛ أما اسمها الحقيقي الذي سُمِّيْت به بعد ولادتها فلا يعرفه سوى أهلها، وقلة ممن يتعلقون بهم فترة طويلة (شأني أنا معهم)، تجعلهم يعرفون خصوصياتهم التي لا يبوحون بها بسهولة.

ـ يا عيون هنادي...

أجابتني بغنج وتأوه يطفح بالاشتياق.

ـ ما الذي ذكَّرك بي ؟.. ألم تنسني؟.. كنت أعتقد أنكم معشر الغجر لا تعشقون أبدًا، وإن عشقتم فسرعان ما تنحرون عشقكم على مذبح الحياة، لتستبدلوه بعشق آخر، وهوى جديد يمكنه تلبية متطلباتكم اليومية الصاخبة... اعتقدتُ أنكم مجبولون على الحرية، لا تتبعون أحدًا وإن كان حبيبًا.

ـ ......

ـ سنين طويلة مرَّت.. أذكر جيدًا أوقاتي الطويلة التي قضيتها بينكم، كنتُ أستعجل الذهاب إليكم حالما تسنح لي الفرصة.. المسافة بين وحدتي العسكرية وقراكم المنتشرة هناك تقترب يومًا بعد آخر.. كل شيء كان جميلاً... صحيح أن الحرب كانت مستعرة على الحدود، إلا أننا كنا بعيدين... أقراني من الجنود يقاتلون على الحدود ليدافعوا عن الحرية، وكنت أنا عندكم أرفل بالحرية.. والحب.

ـ ضمني إليك... ضمني أكثر...

سحبتني إليها بقوة، سقطنا، تدحرجنا على الأرض، أردت أن أقول لها أن تكف، أن تخفض صوتها فقد تذكرتُ الآن؛ تذكرتُ ابنتي التي كنت قد نسيتها، أو أن فرحة لقائي بجواهر (هنادي) قد أنستني إياها، هي ترقد في الغرفة المجاورة لغرفتي... تدحرجنا ملتصقين ببعضنا، ازدادت سرعة تقلبنا، علا الصوت وانتشرت الجلبة، أردت أن نتوقف، أن لا تشعر ابنتي فتراني على هذا الحال.. أصرَّتْ والتصقتْ بي أكثر... شعرتُ أننا نتدحرج من الأعالي صوب الأرض، هوينا في منحدر خارج غرفتي، تهاوينا ننتظر اصطدامنا بالأرض، لم يطل الوقت، وفي لحظة اصطدامنا غشينا صوت انفجار عظيم زلزل الأرض تحتنا.. وثبتُ واقفًا لأجدني مرميًا على أرض الغرفة، صياح عنيف يغشاني، ونيران الموت تنطلق في كل الاتجاهات.. لحظات قصيرة كافية لأعي ما يدور حولي، جنود المحتل في الشارع الملامس لداري تلعن حظها، ومن تجرأ ليعترض دوريتهم بقنبلة قد تكون أصابت أحدًا منهم.

تذكرتُ ابنتي (أفكار).. ركضتُ مسرعًا إلى غرفتها، كم تبتعد المسافات بنا حين يسابقنا الموت، وكم تتكتف أرجلنا وأيدينا، وتخور قوانا، أية هيبة لك أيها الموت لنخافك هكذا...

وصلت إليها متأخرًا، كانت ترتجف من هول الانفجار، احتضنتُها وأخذتها مسرعًا إلى غرفة المعيشة وسط الدار، حاولتُ أن أُهدِّئ من روعها، قلتُ لها : (لا تخافي يا ابنتي، فأنا معكِ)...

كانت عيناها تحدِّق بي وكأنها تسمع كلامي فيهما، لطمني إحساسي بفجاجة ما أقول، وساورني اعتقادٌ أنها تستهزئ بكلامي هذا.. كانت عيونها هذه المرة هي التي تتكلم، فقالت.. وقالت.. وقالت، قالت: لو أنك كنت تريد حمايتي ما تركتهم يدخلون الوطن.. لو أنك كنت تخاف عليَّ منهم ما سمحتَ لهم؛ وأنت العسكري المحترف...أتراك كنت تصدِّق دعوى حريتهم، وأهدافهم النبيلة، وديموقراطيتهم؟... وهل في لغة السلاح من معنى ديموقراطي؟!. يا أبتي إن وجودك معي يزيدني خوفًا؛ خوفًا عليك منهم، فعدوك إن تفوق عليك في ساحة المعركة ولم يقتلك فيها، فهو إنما يخطط ليتفنن في قتلك...هو لا يريدك أن تموت ميتة شريفة...إنه يريد أن يذلك قبل أن يقتلك...لذا هو يؤجِّل قتلك... يريد أن يكون مكان وساعة نحرك وفق اختياره، وبهوادة لتتعذب..لا على عجالة من أمره، ولا في ساحة يرضيك فيها أن تكون منطقة قتلك.

كان صياح الجنود لازال يُسمع هنا وهناك، يختلط بأصوات هدير محركات جاءت مسرعة لتنقذ إصابات رجوت في قرارة نفسي أن لا تكون قد ألمَّتْ بهم، يا آه كيف يروَّض الإنسان على الهوان رويدًا رويدا.

اقتربتْ عقارب الساعة من الرابعة صباحًا، قلَّت أصواتهم حتى اختفت، وذهبوا مبتعدين، طلبت من ابنتي أن تنقل أفرشتنا إلى صالة المعيشة، فليس من المفترض أن أدعها تنام لوحدها، كنت أراها لا تزال صغيرة، مع أنها دخلت عامها الرابع والعشرين من شهرين، ماتت أمها منذ ثلاث سنوات بعد إصابتها بمرض السرطان، هي جميلة وذكية، ومتعلمة، لكنها وحيدة، صحيح أنني معها وأنها أصبحت حياتي كلها، إلا أنني لطالما جفلت من فكرة بقاءها وحيدة إن أنا غابت عيني عنها.

الصفحات