كتاب " سلسلة اللغة أدركوا الدعائم " ، تأليف د.
أنت هنا
قراءة كتاب سلسلة اللغة أدركوا الدعائم
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ثانياً- ضعف لغة الكتابات الرسمية
نادراً ما كان العرب يلحنون في كلامهم، ولاسيما عرب البادية. وحين بدأ اختلاط العرب بغيرهم من الأمم بدأ ظهور اللحن في عامة الناس دون خواصهم، ومع ذلك كان قليلاً ينتبه إليه ويصحح، يروى أن أعرابياً لحن بحضرة النبي الكريم ، فقال لجلاّسه: "أرشدوا صاحبكم فقد ضل". ويروى أن الخليفة عمر بن الخطاب استدعى شخصاً ليوليه أحد الأعمال، واتفق أن لحن هذا في كلمة قالها، فصرفه عمر قائلاً: لا يلي لنا عملاً من يقول كذا... ثم بدأ الخليفة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بوضع بعض القواعد، كما طلب إلى أبي الأسود الدؤلي وضع القواعد حين بلغه لحن أحدهم في آية من آيات القرآن الكريم، ورصد بعض المهتمين باللغة بعد ذلك الأخطاء الشائعة ليصححها ويضعها في كتاب، كالكسائي الذي ألف عام 189هـ كتابه المسمى (ما تلحن به العوام)، ويدل تأليف هذا الكتاب على أن اللحن كان قليلاً يمكن جمعه، ولو حاول أحد الآن القيام بعمل مثل هذا لوجد من الأسهل عليه تأليف كتاب يسميه (ما تفصح به الخواص)!!.
وبقيت لغة الخاصة من الناس سليمة مدة أطول من الزمن، وكذلك الدواوين والكتابات الرسمية. وكان الخلفاء يعنون بأمر اللغة في أنفسهم وفي أولادهم، يدل على ذلك ما انتقل إلينا من أخبار المجالس التي كانوا يقيمونها مع العلماء والمناظرات والمناقشات التي كانت تجري في حضرتهم ويشاركون فيها، وفي مقدمة أبحاثهم أمور اللغة وأمور الدين.. ولكن الأمر تغير حين زاد اختلاط العرب، على اختلاف طبقاتهم، بالشعوب غير العربية التي دخلت في الإسلام، وعمل بعض أبناء هذه الشعوب الذين تعلموا العربية في دواوين الدولة، وفشا اللحن في الخاصة والعامة على حد سواء، وكثر التنبيه إلى ذلك في كتب عديدة، منها مثلاً كتاب (درة الغواص في أوهام الخواص) للحريري (516هـ). وألف كثير من المهتمين بالنحو والصرف كتباً عديدة أمثال سيبويه وعيسى بن عمر والفراء وابن جني، وانحطت اللغة انحطاطاً مختلف الدرجات في الولايات العربية التابعة للخلافة الإسلامية زمن العباسيين. ثم لما استولى الترك على الحكم بطل استعمال اللغة العربية تقريباً وقلت المؤلفات وقل الشعر. وبقي الحال على ذلك إلى أواخر القرن التاسع عشر حين بدأت النهضة العربية من جديد، وتأسست في بيروت (الجمعية السورية) عام 1875م، وكان من مطالبها: "الاعتراف باللغة العربية لغة رسمية للبلاد العربية"، وكذلك تأسس في مصر حزب (اللامركزية) وكان له فروع في بيروت والبصرة باسم (جمعية الإصلاح) التي كان من مطالبها كذلك: "جعل اللغة العربية اللغة الرسمية في الولايات العربية". وعاد الاهتمام باللغة العربية بين طبقات الشعب، وظهر شعراء وكتاب مُجيدون في كل قطر من الأقطار العربية، ولاسيما في سورية ولبنان ومصر والعراق، وبدأ التأليف بالعربية يظهر من جديد في مختلف الفروع، وظهرت بعض المعاجم العربية أولها (محيط المحيط) الذي وضعه بطرس البستاني في لبنان.
وبعد الحرب العالمية الأولى وظهور الدول العربية المتعددة، عادت للغة العربية مكانتها وأصبحت اللغة الرسمية في معظم هذه البلاد. وأخذت الفصحى منزلتها في المكاتبات الرسمية وفي التدريس وفي المحاضرات والجرائد والمجلات. ولم تكن بالتأكيد كلغة العرب الأوائل، ولكن استعمالات اللغة اليومية وفي الدواوين الرسمية لا تتطلب أن تكون على درجة عالية من الفصاحة، وإنما جل ما يطلب منها أن تكون خالية من الأخطاء النحوية والإملائية ومن التعابير الركيكة. ومن المؤسف أن ضعف مستوى تعليم اللغة بعد ذلك انتقل أثره إلى الموظفين، فبدأت لغة الدواوين والمكاتبات الرسمية بالضعف بدرجات متفاوتة، تبدو بأخطاء نحوية وأخطاء إملائية وباستعمال كلمات عامية أو كلمات أجنبية أو بوجود تعابير ركيكة، وقلما نقرأ نصاً رسمياً يخلو من أحد هذه الأمور التي أشرت إليها أو أكثر من أمر. مثلاً على ذلك، أمامي الآن:
1- نص بلاغ رسمي صادر عن إحدى الوزارات، وموقع من السيد الوزير نفسه، مؤلف من أربعة أسطر فقط، فيه غلطة نحوية وغلطة إملائية وتركيب ركيك لجملة تتألف من خمس كلمات.
2- رخصة بناء تتألف من صفحة كاملة فيها ثلاث كلمات استعمالها خاطئ لغوياً.
3- قرار محكمة فيه كثير من الأخطاء اللغوية .(2)
هذا في المستويات العليا أو المتوسطة من الدوائر الرسمية، أما إذا نزلنا إلى مستوى تقارير مخافر الشرطة وإفادات المحاكم وضبوط المخالفات وما شابهها فسنرى ما لا يخطر على بال.
وهناك بعض اللافتات الرسمية والتنبيهات التي تملأ الشوارع منذ عشرات السنين ولا يلتفت أحد إلى خطئها، مثل ممنوع الوقوف وممنوع المرور وممنوع التدخين بدلاً من الوقوف ممنوع والمرور ممنوع...
وبدأنا نرى كذلك بعض المؤسسات الرسمية تضع في الشوارع بعض الإعلانات بلغة عامية.
وأخيراً هناك ما هو أدهى من كل ذلك وأمر، وهو العزوف عن استعمال اللغة العربية في المحافل الدولية، وإلقاء بعض مندوبي الدول العربية خطاباتهم ومداخلاتهم في هذه المحافل بإحدى اللغات الأجنبية، وفي هذا من الاستهتار ما لا يحتمل. يضاف إلى ذلك اتخاذ إحدى اللغات الأجنبية لغة رسمية لبعض المؤتمرات التي تعقد في البلاد العربية، وهو أمر لا ترضى به دولة تحترم نفسها ولا شعب يحترم لغته، وفي كثير من الدول الأجنبية يمنع هذا بقرارات رسمية عليا ولا يسمح به أبداً، وقديماً قيل: (ومن لا يكرم نفسه لا يكرم).