كتاب " الثقافة والمنهج " ، تأليف د.
أنت هنا
قراءة كتاب الثقافة والمنهج
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
س: هل يمكن أن تضرب بعض الأمثلة على ما سميته المجتمع التراحمي؟
ج: كان التجار يعتمدون في تعاملاتهم على كلمة الشرف، ويدورون في إطار مفاهيم إسلامية. كان والدي من كبار التجار، ثم فيما بعد من كبار الرأسماليين الصناعيين، وكانت لديه عقلية تجارية حديثة، أذكر أنه حينما قام بإجراء أول أوكازيون في دمنهور، اعتبر بعض الناس هذه الخطوة خطوة جريئة واستنكرها كثير من التجار، فمفاهيم التنافس والصراع والبقاء للأقوى لم تكن جزءاً من الرؤية العامة في دمنهور، فالأرزاق بيد الله. وتساءل البعض ماذا سيفعل صغار التجار الآن؟ البيع والشراء لم تكن مسألة اقتصادية وحسب، وإنما كان يتخللها قيم أخرى غير مادية. أذكر حادثة أخرى تعبر عن الواقع التعاقدي التراحمي نفسه. جاءت لباب منزلنا فتاة كانت على قدر من الأناقة والجمال، تعرض سلة بها بعض الأشياء للبيع، فرفضتها بناء على إدراكي أننا لا نحتاج لمثل هذه الأشياء وفوجئت بأن أمي تزجرني، وقامت بشراء السلة من الفتاة بسعر جنيه مصري، مع أن القيمة الحقيقية للسلة لا تتعدى عشرة قروش. وفيما بعد عرفت أن هذه الفتاة ابنة أحد كبار التجار الذي أفلس أو توفي لا أذكر بالضبط، وأن عملية البيع والشراء التي تمت بين أمي والفتاة تمت تحت غطاء تعاقدي ظاهري، ولكنها في واقع الأمر تمت في إطار تراحمي، إذ إنه تم إعطاء الفتاة صدقة، ووظيفة الغطاء التعاقدي هي أن تحتفظ أمي للفتاة بكرامتها. هذا التناقض بين التراحم والتعاقد كان يوجد في منزلي، فقد ولدت في أسرة تجارية حيث يعمل والدي في تجارة الجملة، ولكنه كان أيضاً يمتلك ضيعة بجوار دمنهور، شأنه في هذا شأن كل أثرياء دمنهور. وكان والدي ينتمي إلى الجانب التجاري التعاقدي، أما والدتي فكانت تمثل العقلية الزراعية التراحمية. ومع أن والدها كان يمتلك مطبعة، إلا أن التقاليد التي ورثتها عن أبيها لم تكن تتسم بالنزعة الفاوستية التجارية التي كان والدي يتسم بها.
من الطريف أنه عندما توفى الله والدي كنت في الولايات المتحدة الأمريكية، فأقمت مرثية بطريقة فريدة (فأنا دائماً أبحث عن الفرادة) إذ ذهبت لرؤية مسرحية بريخت الاستثناء والقاعدة التي تروي قصة رجل رأسمالي له طابع فاوستي، وتكشف المسرحية أبعاد هذا النمط الإنساني. أما حينما توفى الله والدتي فأقمت مرثيتها بأن ذهبت لشراء بعض الأعشاب التي كانت تتناولها مثل التليو والحلبة والكراوية. وذهبت إلى شارع الموسكي في الأزهر وطلبت من العطار هذه الأصناف وغيرها من الأعشاب الطبيعية. وعندما هم البائع بإعطائي ما طلبت أخبرته بأن هذه الكراوية ليست جيدة، فأجابني "دي مش كراوية يا بيه!"، فأدركت أنني أجهل هذه الأمور، وكان يجب عليّ أن أغلق فمي وأقيم المراثي في هدوء!.
ويبدو أن مقولتي المجتمع التراحمي والمجتمع التعاقدي أصبحتا مكوناً أساسياً في فكري، وهاتان المقولتان هما اللتان جعلتاني فيما بعد أتبنى الماركسية ثم في نهاية الأمر أتبنى الإيديولوجية الإسلامية على أنها إطار لفهم العالم والتعامل معه، وربما يكون هذا أيضاً هو سبب عدائي مثلاً للإمبريالية، والرأسمالية، والصهيونية، ولكل أشكال الاستغلال ومسببات الصراع بين البشر، فالعالم في تصوري ليس ساحة قتال، والإنسان ليس ذئباً لأخيه الإنسان.
هناك جانب آخر تعلمته في صباي وجزء من شبابي في دمنهور هو الإيمان بفكرة المجتمع، فالإنسان ليس فرداً مطلقاً، بل هو جزء من مجتمعه. السائد الآن أن كل مجتمع يتكون من أفراد، وأن الفرد يسبق المجتمع. ولكني تعلمت في دمنهور أن المجتمع يسبق الفرد دون أن يلغيه (فالمجتمع التقليدي زاخر بالشخصيات المتنوعة على عكس ما يتصور كثيرون).