أنت هنا

قراءة كتاب الثقافة والمنهج

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الثقافة والمنهج

الثقافة والمنهج

كتاب " الثقافة والمنهج " ، تأليف د.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 10

س: أين نلمس هذا الجانب في شخصية المسيري؟

ج: لعل نشأتي هذه هي التي تجعلني أضيق ذرعاً بالمؤسسات اللاشخصية، فالمجتمع التقليدي مكون من شبكة واسعة من العلاقات العائلية وعلاقات الجيرة. ولذا -كما أسلفت- لا يتعامل الإنسان إلا مع من يعرفهم ومن يعرفونه. حتى في المدرسة كان الصف انعكاساً لهذا المجتمع. أما "المؤسسات" في دمنهور فكانت مؤسسات في معظمها أهلية لا علاقة لها بالحكومة، يشرف عليها أناس من أهل دمنهور، ويتحكم فيها الناس (مثل جمعية البر بالفقراء - جمعية تحفيظ القرآن - الأوقاف) فهي أقرب إلى ما يسمى الآن "مؤسسات المجتمع المدني". أما المؤسسة بالمعنى الحديث (كيان لا شخصي، خاضع لقوانينه وإجراءاته الخاصة، وليس له مرجعية إنسانية أو أخلاقية أو دينية) فهو أمر لم يكن معروفاً في دمنهور التي نشأت فيها. ولعل تنشئتي التقليدية جعلتني أرى أن المعايير الأخلاقية لا تنطبق إلا على الأفراد وحسب، أما المؤسسات فهي شخصيات مجردة لا شخصية، لا تهتم بالأفراد أو الأخلاق، وتتحرك كالوحش الكاسر أو كقوة من قوى الطبيعة، تحطم كل ما يأتي في طريقها. فالمقدرة على الاستمرار والبقاء المادي هي القيمة المطلقة الوحيدة بالنسبة إليها والتي تجُبُّ أي حسابات إنسانية وأخلاقية.

س: لكنك في النهاية ابن طبقة برجوازية وأب تعاقدي الرؤية كما قلت؟

ج: لابد أن نميز بين البرجوازية الريفية والبرجوازية الحضرية. فالبرجوازية الحضرية في القاهرة والإسكندرية كانت تعاني (أو تتمتع بـ) معدلات عالية من التحديث والتغريب والعلمنة والآن العولمة. أما البرجوازية الريفية فهي بمنأى عن هذه التحولات إلى حد كبير، وإن كان من الملاحظ أنها بدأت هي الأخرى تلحق بما يسمى ركب التقدم.

ولم تكن هذه البرجوازية الريفية تعرف الاستهلاكية، إذ كانت تدور في إطار قيم تقليدية مثل البركة والنعمة والرضا والقناعة. هذا لا يمنع أن المجتمع كان يضم أثرياء وفقراء، لكن هذه القيم كانت تكبح جماح النزعة الاستهلاكية مما يخفف من الاستقطاب الطبقي، إلى جانب أن هذه الطبقة كانت تسيطر عليها عقلية زراعية أبوية، فعلاقة أبي بعماله وعلاقة أمي بالخدم لم تكن علاقة غير شخصية محايدة، وإنما كانت علاقة فيها قدر كبير من الدفء والاحترام والإحساس بالمساواة الإنسانية، وهو الشيء الذي لا تعرفه المؤسسات الحديثة. ولا تنس أن إقامة صلاة الجماعة التي تضم الجميع تنمي هذه الروح. ولا شك أن كل هذه الأمور ساهمت في تعميق بعض التوجهات الفكرية والأخلاقية عندي.

س: ولكن لابد أن يكون هناك عناصر كامنة في شخصيتك، بعيداً عن الإطار الاجتماعي والتاريخي، ساهمت في تعميق بعض التوجهات الفكرية؟

ج: من دون شك. ثمة عناصر كثيرة في شخصيتي ساعدت على تعميق انفصالي عن محيطي وولّدت فيَّ الرغبة الدائمة في التفكر وتفسير كل ما يحدث لي وما يحدث حولي، بحيث لا أقبل أي شيء على علاته. وهو الأمر الذي ساعدني على تطوير كثير من المفاهيم الفكرية التحليلية مثل مفهوم الحلولية ومفهوم المسافة. أهم هذه العناصر هوما أسميه "داء التأمل" الذي أصبت به في يوم من الأيام في طفولتي أو بدايات الصبا (ربما في سن الثانية عشرة) حينما أدركت مقولة الزمان وأننا نعيش داخله، وأن حياتنا هي الزمان. وداء التأمل لا يزال مهيمناً عليّ، وجعلني قادراً على الانفصال عما حولي، وأن أنظر إلى نفسي من الخارج، وألا أقبل أي شيء إلا بعد تفسيره.

ومن العناصر الشخصية الأخرى التي ساهمت في تحديد توجهاتي الفكرية، أن بعض الأشياء كانت تكتسب قيمة رمزية في عقلي غير قيمتها الوظيفية، فالمكرونة كانت بالنسبة إلي هي السحر بعينه (كنت أتصور في طفولتي أنها هي طعام أهل الجنة)! ولذا كان تناولها يعني تجربة شبه روحية لا علاقة لها بإشباع الحاجة البيولوجية للطعام.

أما الأرز، فكان مرتبطاً في ذهني بالطمأنينة وبالعودة إلى المدينة. ولم أتخلص قط من هذا الميل نحو الترميز. فقد أصبح السيجار رمز الهدوء والاستقرار والإنجاز، وقد انتقل هذا إلى موقفي من كتبي. وكثيراً ما تكتسب أطروحات الكتب التي أكتبها بعداً رمزياً، يجعل منها جزءاً من معركة الإنسان مع كل ما يتهدده. وعلى سبيل المثال، تحولت الموسوعة إلى معركة الإنسان ضد الظلم، وإلى هذا الصراع الأبدي بين الإنسان/ الإنسان (الذي يحاول تجاوز عالم الحواس الخمس) والإنسان الطبيعي/ المادي، الذي يقبع داخل عالم المادة قانعاً راضياً. وأتصور أن هذا الميل نحو الترميز ساعدني كثيراً على الانفصال عن بيئتي المباشرة، إذ خلقت لي الرموز عالمي الخاص. كما أن الرمز - لا شك - شكل من أشكال النموذج، فهو عنصر من العالم المادي، ولكنه يعلو عليه إلى أن يصبح علامة مكثفة على عناصر كثيرة، قد يبدو لأول وهلة وكأن لا علاقة بينها.

ويرتبط بهذه النزعة نحو الترميز ما أسميه "النزعة الطقوسية"، إذ أميل لأن يصبح كل حدث مهم في حياتي جزءاً من طقس خاص جداً وأقوم أنا بتطويره. فكنت في طفولتي أبدأ استذكاري بأن أضع زهرة في مزهرية، أو أحلم بها إن لم يكن هناك زهرة. وحينما تقدمت بي السن طورت مفهوم "الشاي غير البيولوجي"، وهو أي قدح من الشاي لا أحتاج إليه من الناحية المادية ومع هذا أشربه مع صديقي كي آنَس به. (قد تطور هذا فيما بعد ليصبح مفهوم "الأبوة غير البيولوجية" حين أقوم بتبني بعض الأيتام من ضحايا العصر الحديث).

ومن أهم الطقوس في حياتي طقس "ساعة الصفاء" (الذي طورته مع صديقي الفنان رحمي)، وهو المقدرة على الانسحاب من الزمان، بحيث يعيش الإنسان "لحظات ليست كاللحظات" خارج الزمان، ومن ثم يمكنه أن يستعيد تكامله وإنسانيته (بعد أن يكون قد فقد بعضاً منهما في معترك الحياة وتفاصيلها التي لا تنتهي)، على أن يظل الإنسان واعياً تماماً بأن هذه لحظات مؤقتة وحسب، وأنها لابد أن تنتهي، ومن ثم فهي ليست نهاية التاريخ والتدافع والأحزان والأفراح (أو كما أقول في إحدى القصص التي كتبتها للأطفال: "كل الأشياء الجميلة تنتهي! كل الأشياء الحزينة تنتهي"). وقد حاولت تطبيق هذا المفهوم في حياتي حتى لا يتحول الاستمرار إلى تكرار وروتين، فلحظة الصفاء تجلب عنصراً من الإبداع إلى الحياة الاجتماعية اليومية. وقد تعلمت أنا وزوجتي أن نمارس لحظات الصفاء هذه، مهما كانت الحياة قاسية علينا. ساعتها نطلب من أولادنا أن يبتعدوا عنا بعض الوقت، ونجلس وحدنا نحتسي القهوة وأدخن سيجاراً، فتتجدد العلاقة المباشرة بيننا ولا تضيع منا في الزحام والتفاصيل. كما تعلم كثير من أصدقائي طقس لحظة الصفاء، إلا أنني كنت أمارسها أيضاً مع بعض الأصدقاء ممن لا يعرفونها، فنعيش معاً "ساعة صفاء" دون إدراك من جانبهم.

وكان هناك أيضاً ما أسميه "الحمام الطقوسي" الذي آخذه بعد الانتهاء من كل مؤلف من مؤلفاتي. كما أنني حينما كنت في الولايات المتحدة طورت طقس "الحمام الفكري"، وهو أنه حينما تستعصي علي فكرة ما أذهب لأستحمَّ حماماً ساخناً، وتحت (الدش) تتلاحم الأفكار وتتضح العلاقات بينها، وكثيراً ما أنجح في حل الإشكالية الفكرية التي تواجهني. (أخبرني أحد الأطباء أن هذا الطقس الأخير له أساس مادي، إذ إنني أشكومن الحساسية من حبوب اللقاح المنتشرة بكثرة في الولايات المتحدة. ولذا حينما أستحم بماء ساخن فإن البخار المتصاعد يقوم بتنقية الجيوب الأنفية، فيسهل التنفس ويتصاعد الأوكسجين إلى مخي فأقوم بالتفكير في حرية أكبر).

وهذه النزعة الطقوسية هي في واقع الأمر نزعة لأن أضع حدوداً بيني وبين الواقع المادي المباشر، وهي في هذا تشبه وعيي بالتاريخ والفن. كما أنها تطورت فيما بعد لتصبح ميلاً نحو بلورة المقولات التحليلية وإدراك مستويات الواقع المختلفة. وقد زادت هذه النزعة في الولايات المتحدة، فهو بلد لا يحترم الطقوس ولا يعرف منها إلا أقل القليل. وطقوس الانتقال من مرحلة عمرية لأخرى في الولايات المتحدة، إما غير موجودة أساساً وإما مختلفة عما ألفته، فهي ليست ثرية بما فيه الكفاية، كما أنها، في معظم الأحيان، تأخذ شكلاً استهلاكياً واضحاً (مثل احتفالات بلوغ سن الرشد عند اليهود [البارمتزفا]، أو احتفالات دخول الجامعة أو التخرج فيها). لعل هذه النزعة الطقوسية التي طورتها هي لحماية ذاتي ولإحاطتها بسياج يفصلها عما حولها.

الصفحات