كتاب " الثقافة والمنهج " ، تأليف د.
أنت هنا
قراءة كتاب الثقافة والمنهج
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
س: هل تريد أن تقول أن الإنسان قيمة تتخطى المادة؟
ج: نعم نعم، إيماني هذا حدد ذوقي الفني، لذا تجدني أعشق أفلام المخرج الياباني كيروساوا خاصة فيلم "كاجاموشا Kagemusha " (المحارب الظل) ( Shadow warrior ) وكذلك "السيرة الهلالية" حيث نجد مجموعة من القيم التي تتجاوز سطح المادة والمنفعة المادية، كما نقابل الارتباط بالقيم البطولية التي يشير لها الآن بعض ممن يسمون بالواقعيين "بالعنترية". فالعنترية هي ما يميز الإنسان لأنه غير خاضع لحسابات المكسب والخسارة المادية، فمثلاً تأتي امرأة لأبي زيد الهلالي تشكو من ظلم وقع عليها، فيقرر الدخول في حرب من أجلها. وعندئذٍ يعترض من حوله على موقفه هذا، فالمرأة ليست ذات أهمية، خاصة أن الظلم الذي وقع عليها هو مجرد سرقة حصانها، ومن ثم فموقف أبي زيد ليس له أي مبرر من منظور حسابات المكسب والخسارة المادية. ولكن أبا زيد يبيّن لهم إخفاقهم في إدراك المعنى الأكبر لنصرتها واستعادة حقوقها، وأن القضية ليست قضية امرأة سُرق منها حصانها، وإنما هي قضية القيم الإنسانية. لا يعبر أبو زيد عن موقفه بهذه الطريقة لكن حديثه يبين بشكل واضح أن هناك من القيم ما يتجاوز حسابات المكسب والخسارة المادية.
أعتقد أن هذا ما يميز الإنسان كإنسان وكما يقول (علي عزت بيجوفتش) رئيس البوسنة السابق -رحمه الله- في كتابه المهم الذي أثر فيَّ كثيراً الإسلام بين الشرق والغرب: "إن الإنسان تجاوز فكرة المنفعة المادية"، ولذلك يقول: لو أن الإنسان يعيش في إطار المنفعة المادية فقط لحسّن من كفاءته كصياد ولكنه لم يفعل، بل تجده يقوم بشعائر دينية ويرسم على حوائط الكهوف ويعبد الله، أو الأوثان. أما الحيوانات فهي لم تفعل شيئاً سوى تحسين كفاءة الصيد. كل هذا يدل على أن هناك داخل الإنسان ما يتجاوز المنفعة المادية، ومفهوم التراحم يؤكد أن هناك مجموعة من القيم المادية تتحكم في الإنسان، لكن إلى جانب هذا هناك شيء آخر يتجاوز المادة مفطور في عقل الإنسان وقلبه، وهو ما يميزه عن كل الكائنات الأخرى.
س: هل هناك عناصر أخرى في دمنهور تركت أثرها عليك؟
ج: نعم، الإطار الذي تحركت فيه في طفولتي هو الأسرة الممتدة، بكل ما في الكلمة من معان. ففي الجيرة التي نشأت فيها كان كل الأطفال معروفين للجميع. ولذا كان الوقت الذي أقضيه في الشارع ليس مجرد "صياعة"، وإنما وقت للتنشئة الاجتماعية، على عكس الشارع هذه الأيام، كما كان الصبية الكبار يراقبون الصغار وكأنهم أولياء أمورهم.
وفي إطار الأسرة النووية يكون الإنسان على اتصال مباشر مع أبيه أو أمه ويعيش الجميع داخل دائرة مغلقة، فإذا أراد أن يطور شخصية مستقلة عنهما فإن هذا يسبب له توترات شديدة؛ لأن الأسرة النووية ضيقة بحكم تكوينها وليس أمام الفرد سوى أبيه أو أمه، إما أن يقبلهما فيشعر أنه فقد هويته وشخصيته المستقلة، أو يرفضهما ويدير لهما ظهره، وهما أمران أحلاهما مر، ويؤدي إلى شكل من أشكال الاستقطاب والتطرف. أما في إطار الأسرة الممتدة، فالأمر جد مختلف، فالفرد محاط بأفراد كثيرين أكبر منه وكل منهم نموذج مختلف، مما يتيح له فرصة اختيار أي نموذج يشاء دون استقطاب القبول الكامل أو الرفض الكامل. وعندما كنت في دمنهور، كان لي أعمام وأخوال وزوج أخت، وكنا جميعاً نسكن إما في العمارة نفسها أو في أماكن قريبة جداً من بعضنا بعضاً، أي إنني كنت أتفاعل مع شخصيات متنوعة. كان زوج أختي الأستاذ عبد الوهاب حلمي، رحمه الله، مدرس لغة عربية اكتشف فيَّ شيئاً ما، وكان يشجعني دائماً أن أكتب "خُطباً" وأن أحرر مجلة المدرسة وغير ذلك، مما ساعدني على إدراك مدى رحابة عالم الثقافة بالمقارنة بعالم الثروة ومراكمة الأموال. وكان خالي محمود إبراهيم حلبي، رحمه الله، رئيساً لحزب الوفد في دمنهور وكان يملك مطبعة، وكان لديه عالم آخر غير عالم تراكم الثروة لأنه كان يضع المطبعة تحت تصرف حزب الوفد والحركة الوطنية. وقد ساهمت هذه النماذج المتنوعة في فتح نوافذ أخرى لي.