كتاب " بصمة نبي وإعجاز مربِّ " ، تأليف الشيخ عبدالكريم تتَان ، والذي صدر عن
أنت هنا
قراءة كتاب بصمة نبي وإعجاز مربِّ
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللقاء الأول وأثره العميق
إذا فتحنا كتاب صفة الصفوة[1] وجدنا صاحب سر الرسول صلى الله عليه وسلم يتربع مع ثلة من الصحابة السابقين إلى الإسلام من المهاجرين والأنصار على عرش... (الطبقة الأولى) في الكتاب[2]، وقد قال هو عن نفسه: "لقد رأيتني سادس ستة ما على الأرض مسلم غيرنا"[3]، ذلك أنه أسلم قبل دخول الرسول صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، فمن هو هذا الصحابي؟ وما الحادثة التي نقف معها نستضيء بعطائها، ونرتشف دلالاتها بما وسعنا لا بمدى ما تعطيه؟.
إنه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، ويكنى أبا عبد الرحمن، وأمه أم عبد. وقد حدثنا عن أول لقاء له أكرم به مع رسول الله وصاحبه الصديق، فقال: "كنت غلاماً يافعاً أرعى غنماً لعقبة بن أبي معيط، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام وأبو بكر رضي الله عنه ، وقد نفرا من المشركين فقالا: يا غلام! هل عندك من لبن تسقينا؟ فقلت: إني مؤتمن، ولست ساقيكما، فقال النبي: هل عندك من جذعة لم ينز عليها الفحل؟ قلت: نعم. فأتيتهما بها، فاعتقلها النبي ومسح الضرع ودعا، فحفل الضرع، ثم أتاه أبو بكر بصخرة منقعرة، فاحتلب فيها، فشرب أبو بكر ثم شربت. ثم قال للضرع: اقلص، فقلص[4]. قال: فأتيته بعد ذلك، فقلت: علمني من هذا القول. قال: "إنك غلام معلم"؛ فأخذت من فيه سبعين سورة لا ينازعني فيها أحد[5].
بداية نقف قبالة قول من لا ينطق عن الهوى لابن مسعود: "إنك غلام معلم"؛ لما فيه من نبض المعنى الكبير الذي جاء به الإسلام، حيث افتتح الوحي بقوله تعالى: {اقْرَأْ} [العلق: 96/1] وهو كما قال أديب العربية الرافعي، وهو يكتب عن رحلة الإسراء والمعراج يتحدث عن الأمة التي تحتفل بالذكرى: "كيف يركنون إلى الجهل؛ وأول أمرهم آخر غايات العلم؟"[6]، ثم تعال معي إلى قلب الليل البهيم حيث أضاءه مشهد جلي عمق ما فاه به الرسول لابن مسعود، ولنا بعد ذلك أن نعود إلى الشاهد الثاني من الحدث، وهو أدق وأعمق، ولعله هو الذي أثمر الأول. فماذا - يا ترى- في تلك الإضاءة.
بينما عمر بن الخطاب الفاروق رضي الله عنه في سفر من أسفاره إذا به يلقى ركباً، وكان الليل ضارباً أطنابه على امتداد الأرض يمنع العين من وظيفتها، ذلك أنه بالنور تظهر الأشياء، وقد كان في الركب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي قال - ولم يكن مبالغاً- فيما قال: والله الذي لا إله غيره، ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، وأعلم فيما نزلت، ولو أعلم أن أحداً أعلم مني بكتاب الله تناله المطي لأتيته. أليس في قوله الأخير: "ولو أعلم.." شعاع من باطنه المشحون بطلب المعرفة، وهو نبضة من قلب قوله عليه السلام له: "معلم"، إذ لا ينال العلم إلا طالبه.
وبدافع حرص الفاروق العام على الرعية في ليلها ونهارها أمر رجلاً أن ينادي الركب متعرفاً: من أين القوم؟ فأجابه واحد من الركب: من الفج العميق، فقال عمر: أين تريدون؟ فقال المجيب: البيت العتيق، فقال عمر: إن فيهم عالماً، فنادى منادي عمر الركب يستعلم ما لدى القوم: أي القرآن أعظم؟ فأجابه أحدهم: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 2/255] . قال عمر: نادهم؛ أي القرآن أحكم؟ فقال المجيب: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 16/90] . فقال عمر: نادهم؛ أي القرآن أجمع؟ فقال الرجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *} [الزلزلة: 99/7] . فقال عمر: نادهم؛ أي القرآن أخوف؟ فقال المجيب: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا *} [النساء: 4/123] . فقال عمر: نادهم؛ أي القرآن أرجى؟ فقال: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ *} [الزمر: 39/53] فقال عمر: نادهم؛ أفيكم عبد الله بن مسعود؟ قالوا: اللهم نعم..
دعك الآن من موضوع الاختبار وأسئلته وما نضحت به الأجوبة من دلالات ورفعت من معان ملأت الصدور فصاغت ذلك السلوك الرباني، وركز معي على تمكن ابن مسعود من قضية القرآن تلاوة وتدبراً ووقوفاً على المعاني الكبرى التي عمرت بها الحياة، وعلى كون هذا التمكن غصناً ناضراً مزهراً عطراً من شجرة (المعلّم) التي ألقى الرسول عليه السلام بذرتها في أول لقاء لابن مسعود معه...
وعودة إلى المشهد الرئيس نتلمس منه المعاني الضخمة التي نضح بها، ويكفي فيه أنه كان سبباً لهداية ابن مسعود، ورافعاً له ليكون مع نجوم الصحابة التي ملأت عصر النبوة، ومازالت مطلة علينا من عليائها منارات هداية، ومناهل نور، ومرايا صقيلة مستوية نرى فيها العجب العجاب، ونصلح من شأننا بالعرض الصادق على تلك المرايا.