أنت هنا

قراءة كتاب الإسلام والعصر تحديات وآفاق

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الإسلام والعصر تحديات وآفاق

الإسلام والعصر تحديات وآفاق

كتاب " الإسلام والعصر تحديات وآفاق " ، تأليف د.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 10

إنني أتأمل في هذه التي يسمّونها تحدّيات تواجهنا، سواء أكانت ثقافية أو علمية أو اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية، فلا أجد في شيء منها ما يحوجنا إلى إعادة النظر في شيء من مبادئنا أو معتقداتنا، أو إلى التَّخلِّي عن شيء من أحكام شريعتنا.. هذا بقطع النظر عن أننا، كسائر العالم الثالث نعاني من مشكلات فرضت علينا. إن من الثابت يقيناً أنه لا تلك التَّحديات تحمل إلينا بشائر الحلول لهذه المشكلات إن نحن استسلمنا لها، ولا مبادئنا الاعتقادية وأنظمتنا الاجتماعية والاقتصادية وغيرها تعاني من عجز في الاستجابة لمصالحنا ومتطلَّبات عصرنا.

ما المشكلة الاقتصادية التي عجزت أحكام الاقتصاد الإسلام عن حلِّها ورسم السبيل الأمثل للتَّغلب عليها، ثم استقلَّ النظام الليبرالي أو الاشتراكي بحلِّها؟

ما المعضلة الاجتماعية ـ إن في نطاق الأسرة، أو في صلة مابين الرجل والمرأة، أو عموم ما يسمّى بحقوق الإنسان ـ التي لم تقدم الشريعة الإسلامية أفضل علاج لها؟

ما المأساة السياسية التي ابتليت أمّتنا الإسلامية بها، ولم يكن سبيل التَّخلص منها، في قرار أيّ متدبِّر منصف، العود الرّاشد والحميد إلى تعاليم الإسلام؟

تأمَّل معي جيداً، تجد أن مصدر ما يسمى اليوم بالتَّحدي ليس متمثِّلاً في تنافر مزعوم بين أحكام الإسلام ومصالح مستجدّة تفرض نفسها علينا.. إن هذا التنافر المزعوم لم يوجد إلى هذا اليوم قط. فإن جاء من يضعك أمام بعض صوره، فمردّ ذلك إما إلى أن المصلحة المناقضة للإسلام مصلحة وهمية قضت بضرورتها الرّعونات والأهواء، وإما إلى أن الحكم الشرعي الذي عارضها جاء نتيجة فهم مغلوط أو دراسة سطحية لحقيقة ذلك الحكم ومستنده من مصادر التَّشريع. وكم في الناس من يبوِّئون أنفسهم مركز الفتوى في الإسلام فيبعثون به إن في طريق التهوين أو التشديد، دون وجود أي سند لهم من المعرفة والملكة العلمية الكافية.

وإنما مصدر الشعور بهذا التَّحدي، ذلك الفراغ الفكري الذي حدثتك عنه، والذي أورثنا العجز عن الاجتماع على اتِّخاذ القرار المتّفق مع ذاتيَّتنا ومع ما تقتضيه مصالحنا.

هذا بالإضافة إلى أن مصادر الشريعة الإسلامية، الأصلية والفرعية كانت ولا تزال الميزان العلمي الذي تعرض عليه مستجدات المصالح والأعراف والظروف الطارئة. فما كان منها متفقاً مع المصلحة الإنسانية التي جاء الإسلام لرعايتها وحمايتها، أيّده ودعا إليه، طبق المرتبة التي تحتلّها في قانون سلّم الأولويات بين المصالح، وهو السلّم الذي تصنّف فيه درجات المصالح على النّحو التالي بدءاً بالأهمّ فما دونه: مصلحة الدين، فالحياة، فالعقل، فالنّسل أو الأسرة، فالمال. وتصنّف فيه درجات رعاية المصلحة الواحدة من هذه المصالح طبق الأولويات التالية: الضّروريات، فالحاجيات، فالتَّحسينات.

إن مصادر الشريعة الإسلامية، ولاسيما الفرعية، كانت ولا تزال، الأداة الفعالة لسلوك سبيل الاجتهاد في هذه المستجدّات على بصيرة وطبق قواعد ثابتة، إن من أبرز هذه المصادر: المصالح المرسلة، وسدّ الذّرائع، والاستحسان، وسلطان العرف، واليقين لا يزول بالشّك.

وتدخل هذه المصادر كلها تحت ذلك الفنّ الشهير الذي استخلصت قواعده كلها من نصوص القرآن والسُّنة الصحيحة، والذي يسمّى بقواعد تفسير النصوص، أو علم (أصول الفقه).

كل ما في الأمر أن الاحتكام إلى هذه القواعد لا يعني منح سائر المستجدّات التي قد يخيل إلينا أنها مصالح، إجازة مرور وقبول مطلقاً وطبقاً لما يستدعيه هذا الخيال.

وإنما معناه عرض هذه المستجدّات على هذه القواعد العلمية الدقيقة، على ضوء ما فيه من ميزان المصالح، مرتبة حسب سلّم الأولويات الذي أشرنا إليه، ثم اتِّباع الحكم الذي يكشف عنه ذلك السلّم من ردٍّ أو قبول..

وهاهي ذي المجامع الفقهية تؤدي واجبها على خير ما يرام في بيان الأحكام الشرعية المختلفة لكلِّ ما يستجدّ في حياتنا اليوم من مصالح أو أعراف أو اكتشافات.. دون أن تشرد بذلك عن ميزان الشرع وهديه، أو أن تتقوقع في جمود لا يتفق هو الآخر مع ميزان الشّرع وهديه.

غير أن المهمّ أن أعود فأُنبِّه مرّة أخرى إلى أنه لا فقدان أدوات الاجتهاد هو السبب في ضيق الناس بالتَّحديات وتأفُّفهم منها، ولا وجود هذه الأدوات واستعمالها على الوجه السَّليم يشكِّل سبباً كافياً في انمحاقها والقضاء عليها.

ولكي نزيد المسألة وضوحاً دعنا نتساءل: ما التحدي؟ وكيف يتمّ الشعور به؟

إن التَّحدي، ذلك الضغط المنبعث من تيار حضاري أو اقتصادي أو سياسي، وافد، عندما لا يصادف بالمقابل تياراً يقف في وجهه مكوناً من الجوانب ذاتها.

وهذا يعني أن الشعور بتحدِّي التَّيار الوافد ليس منبثقاً من قوة التيار ذاته، وإنما هو منبثق من العجز عن مواجهته، وسبب العجز عن مواجهته عدم وجود تيار مقابل في الداخل يسدّ الثّغرات ويحمي المجتمع من الدَّخيل.

وما من ريب في أن أي أمة تملك ما نملكه نحن من المبادئ الفكرية ومقومات الحضارة، لو أُتيح لها أن تتَّحد وتتساند وتتعاون انطلاقاً من محورها الاعتقادي الجامع، فإنها تملك أن تنسج لنفسها من ذلك التَّيار المقابل الذي من شأنه أن يبدد ضغط التيار الأجنبي الوافد، إذا كان مناقضاً لمبادئها وميزان مصالحها.

والمؤلم حقّاً أننا نملك المبادئ والقيم والنسيج الحضاري المتكامل، ولكنا ـ للسبب الذي أوضحته قبل قليل ـ لا نملك أن نصوغ من ذلك تياراً يحمي وجودنا الحضاري من وقع التيارات الوافدة أو العاصفة.

وفي الناس اليوم من تغيب عنه الحقيقة الواضحة، في غمار الانطواء على فرديته بعيداً عن التَّنبه إلى كونه جزءاً من مجتمع، ومن ثم بعيداً عن النهوض بما يترتب عليه من واجب في هذا الصّدد، إنه يقول: إن هذا التيار الحضاري الوافد إلينا، من شأنه أن يذيب في كيان العربي المسلم الفرد، سلطان إرادته وأن يشلَّ فاعليته واختياره، ومن ثم فهو لا يملك إلا الاستسلام، حقاً كان هذا الذي يستسلم له أم باطلاً!!..

إن الذي نسيه هذا القائل في غمار فرديته التي يركن إليها، هو أن ذلك التيار الاجتماعي الوافد والذي لم يجد بدّاً من الاستسلام له، إنما تكونت بذوره من إرادات وقصود فردية، تلاقت لدى أصحابها وتضافرت بدافع من رغبة التعاون في طريق رعاية المصالح وحماية الذّات.. وينسى هذا القائل أن هذه الإرادات الفردية أن تلتقي على محورها موجودة هي الأخرى لدينا، وأعني بذلك مجموعة المبادئ والنُّظم التي تكوَّن منها نسيج حضاري متكامل ساد خلال قرون متطاولة؛ كل ما نفتقده في هذا المضمار إنما هو روح التعاون الحقيقي الذي لابدَّ منه لتتحول الأنشطة الفردية إلى تيار اجتماعي راسخ.

إذن، فقد أصبح من الواضح أن التَّحديات التي يشعر بها كثير منا في مواجهة مجتمعاتنا العربية والإسلامية، ليست آتية من قرار عقلي دلت عليه التجربة بعدم جدوى المبادئ الاعتقادية التي كنا ولا نزال نأخذ أنفسنا بها، أو بعدم جدوى الأحكام الشرعية التي كانت ولا تزال مصدراً لسعادة الفرد وخير المجتمع، وبأن الأنظمة الغربية أو الشرقية الوافدة هي وحدها التي غدت اليوم مجدية ومناسبة.

أجل.. إن وطأة هذه التَّحديات ليست آتية من قرار عقلي بهذا أو بذاك.. وإنما هي آتية من عاملين داخليين:

أحدهما تراجع الثقة بالإسلام لدى كثير من المسلمين، من حيث هو عقيدة ودين موحى به إلينا من عند الله، ومن ثم من حيث هو مجموعة مبادئ ونظم وأحكام.. ولعل جلّ هؤلاء المسلمين ممن بيدهم صنع القرار..

ثانيهما عجز أفراد الناس وفئاتهم عندنا عن مدِّ جسور التعاون فيما بينها لتحويل الإرادات والطموحات الفردية إلى تيار اجتماعي فعّال، وتحوُّل الأمّة الواحدة إلى فئات متدابرة شتّى!..

والترجمة الوجيزة الجامعة لكل هذا الذي قلته، هي أن ما يسمى بالتَّحديات التي تواجه حياتنا العصرية اليوم، وهم كبير سرى إلينا، وهيمن على نفوسنا، من جرّاء أمراض تربوية واجتماعية تعاني منها أمّتنا اليوم.

الصفحات