كتاب " حرية النشر و إشكالية الرقابة على الفكر " ، تأليف محمد عدنان سالم ، والذي صدر عن دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع .
قراءة كتاب حرية النشر و إشكالية الرقابة على الفكر
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
حرية النشر و إشكالية الرقابة على الفكر
* لن أسترسل في عرض النتائج المتباينة لكل من الرقابتين فلديَّ منها الكثير.. يكفي أن أؤكد ما أثبتته التجربة من أن مناهج الوجبات الجاهزة والثقافة الإلزامية المنمّطة، إنْ في المقررات التعليمية أو في الكتب الثقافية، قد بغضت الكتاب إلى الطالب والقارئ معاً، وأفقدتهما الاحترام والقداسة له، وأسهمت في إنتاج جيل مسطَّح، لم يفلت منه إلا من نأى بنفسه عنها بقدراته الذاتية وعشقه للعلم ونهمه في المطالعة
لا تختلف الرقابة على المطبوعات في معظم بلدان الوطن العربي، إلا في درجة التشدد الرقابي، وزاوية النظر.
ولا يزال على الناشر فيها، حين يزمع نشر كتاب أن يعرضه قبل الطبع على أجهزة الرقابة، وأن ينتظر رأيها فيه وحكمها عليه، الذي قد يتراوح بين السماح المطلق، أو المشروط ببعض الحذف، وبين المنع الكلي. وقد يستغرق انتظاره بضعة أشهر، خاصة إذا كان عنوانه مثيراً؛ مثل عنوان ( خوف لا ينتهي )، مع أن مضمونه لا يخيف أحداً.
ومع أن هذه الإجراءات الرقابية تعيق حركة النشر في عصر يتسارع فيه توليد الأفكار ونشرها، وتفقد فيه بعض المطبوعات قيمتها العلمية أو مناسبتها السياسية أو الاجتماعية قبل أن تغادر المطبعة وتصل إلى يد القارئ، فإن الناشر ما يزال يركن إليها ويألفها، ويفضلها على حرية النشر التي قد تعرضه لتحمل مسؤوليته عن الكلمة؛ سواء أكانت مسؤولية سياسية أو اجتماعية أو دينية. ولئن كان تذرعه بموافقة الرقابة المسبقة، قد يخفف من مسؤوليته، لكنه لن يعفيه منها، خاصة إذا ارتدت المسؤولية العباءة الأمنية.
على أية حال فإن مشكلة الرقابة المحلية، ربما كانت هي الأهون على الناشر العربي، فإذا ما تجاوزها، وطبع الكتاب ونشره في بلده، فإن عليه أن يحصل له على موافقات بعدد دول الجامعة العربية إلا قليلاً ممن أراح نفسه من عبء الرقابة المسبقة، لكلٍّ منها مزاجه ومعاييره وآلياته الخاصة به لممارسة هوايته في مراقبة المطبوعات الواردة إليه، وهي مدانة كلها مسبقاً حتى تثبت براءتها، وإثبات البراءة- فضلاً عن الزمن الطويل الذي يستغرقه- سيكون متعذراً جداً في بلدان متباينة الأنظمة والاتجاهات، ويندر جداً أن ينجو كتاب من منع هنا أو حجر هناك، فإذا ما فتح له باب في بلد، أوصدت دونه أبواب في بلدان أخرى بذرائع شتى. والضحية دائماً هي القارئ المحروم من حقه في الاطلاع، ومن ورائه الثقافة العربية المحرومة من حقها في الإبداع، إذ الإبداع لا يزكو إلا في مناخ التعدد، وحرية التعبير، واحتكاك الأفكار، وتصادم الآراء،واحتدام النقد.
في عصر المعلومات وثورة الاتصالات التي نعيش، أفلتت الكلمة من سلاسل الرقيب، وانطلقت حرةً تصل إلى الإنسان في كل مكان، وتنهمر عليه من السماء عبر الفضائيات، وتنبع بين يديه في الأرض عبر الشابكات.. لم يعد الإنسان أسير الكلمة الواحدة والخطاب الواحد والرأي الواحد، فقد تعددت أمامه الخيارات إلى درجة الطوفان، وعليه أن يتقن السباحة في خضم المعلومات ليطفو على السطح ظافراً بخيراتها ناجياً من أحابيلها وآثامها.
لم يعد للرقابة معنى في عصر المعلومات، ولن تجديها وصايتها نفعاً، إذا لم تكن مسؤولية الكلمة التزاماً مشتركاً يضطلع بها الكاتب والناشر والقارئ جميعاً.
إن المسؤول عن الكلمة أولاً وأخيراً في نظري هو القارئ؛ بوعيه الناقد، وحسه الثقافي المرهف، يستطيع أن يوجه حركة الفكر والنشر؛ بإقباله على الإبداع المميز والإنتاج الثقافي النافع، يمكنه أن يصحح المسار، ويتجاوز الغثاء، وينحي الأفكار القاتلة، ويدفن الأفكار الميتة.
لا أخاف على القارئ النهم من الضلال، فنهمه في القراءة وتوقه للاطلاع سوف يهديانه إلى سواء السبيل، فالقراءة الواعية تصحح أخطاءها.
إنما الخوف الكبير على القارئ أن يحيد عن درب القراءة، وتتراخى يده عن الكتاب، فتلك هي الطامة الكبرى..
وأخلص إلى القول:
إن الالتزام الطوعي الذي توفره رقابة المجتمع أجدى على الثقافة وأكثر مصداقية من الإلزام السلطوي الذي فقد جدواه ومعناه؛ في عصر التفجر المعرفي الذي أحدثته ثورتا المعلومات والاتصالات، فحطمتا به كل السدود والقيود والوصايات.