كتاب " سبع عجاف " ، تأليف سعد آل سالم ، والذي صدر عن مؤسسة الرحاب الحديثة للنشر والتوزيع .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب سبع عجاف
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
سبع عجاف
مدخل
أقفلت خط الهاتف، بعد أن أنهيت نقاشاً حاداً دار بيني وبين أحد الزملاء في الصحيفة، والمعروف بقربه من رئيس التحرير، في الحقيقة أنه بدا ممتعضا من طريقتي في التعامل مع مسؤولي التحرير، وإصراري الدائم على إدراج الأخبار والمقالات التي أعدها، ومن عدم تفهمي للسياسة العامة للصحيفة، وعدم تقديري للخطوط الحمراء المفروضة عليها من الأعلى حسب قوله، بدوري لم أكن لأستسيغ مثل هذه الأعذار، ويزعجني أن أسمعها من أي زميل لي في محيط الإعلام، فإن لم يكن للإعلامي استقلالية وحرية في مهنته، دون فرض أراء ووصايا عليه قد تكون مضللة للقراء، فإني أرى الاستقالة والتنحي أفضل من خداع الناس عبر مهنة تعتبر السلطة الرابعة في أي دولة. ليس من خلال نشر المعرفة والتنوير فقط بل في تشكيل الرأي والإفصاح عن المعلومات والحقائق وتمثيل الشعب لدى الحكومة وإظهار وجه الأمم لنظيراتها.
إن ما وجدته في الأشهر الماضية من مضايقات من إدارة التحرير في الصحيفة، تمثلت في حجب الكثير من التحقيقات الميدانية التي وقفت عليها بنفسي، واللقاءات والأخبار التي تعبر عن نبض الشارع، وترديدهم نفس الحجة من تجاوز للخطوط الحمراء، والتي لا أعرف لها معنى عندهم سوى أنها تغييب لصوت المواطن وتحجيم للعين الكاشفة لفساد وتسلط بعض المسئولين، جعلني ذلك أفقد الكثير من علاقاتي داخل الصحيفة وأعيش حالة نفسية سيئة.
ففكرت بمراجعة العيادة النفسية عند صديقي مازن فقد أجد عنده حلولاً للخروج من هذه الحالة المرهقة. إنه يشعرني بالارتياح لمجرد الحديث معه.
حين دخلت عيادته هبّ واقفاً للترحيب الحار، فرغم تواصلنا عبر رسائل الجوال بعد كل خبر أو تحقيق ينشر لي، إلا أن أشهراً طويلة مرت لم نلتق فيها، بدأنا الحديث عن ذكريات جمعتنا بالسابق وعن أحوالنا الآن، ورغم اندماجي معه في ذلك إلا أن صوتاً خافتاً مسترسلاً لا أكاد أتبين كنهه تسرب إلى أذني من داخل غرفة الكشف واستوقفني، انشغلت به قليلاً ثم ما لبثت أن أحسست بالحرج، وسألت صاحبي إن كنت أعيق عمله؟.
ابتسم الدكتور مازن وأخبرني أن الصوت لأحد مراجعي عيادته وأنه الآن في جلسة ضمن برنامج علاجي له لا يستدعي تواجده بجواره وسيغادر بعد دقائق قليلة.
عدنا لنواصل أحاديثنا وأثناء ذلك هدأ الصوت، وخرج المراجع من الغرفة وأقبل نحونا في طريقه للمغادرة، ألقى التحية و سلّم ذاكرة كمبيوترية "فلاش ميموري" كانت في يده للدكتور وهو يسأل: كم سيكون رقمها؟!.
ليجيبه الدكتور بأنه لا زال في البداية وعليه أن يستمر، فهذه الذاكرة رقم ثلاثة وثلاثين، و التفت نحوي ليعرفه علي كإعلامي وصديق، تبادلنا الابتسامات وتصافحنا قبل أن يدير ظهره للخروج بعد أن أكد عليه الدكتور ضرورة التزامه بجلسة الغد.
لم استطع أن أقاوم الفضول الذي اعتراني عن حالة المراجع وعن ما تحتويه هذه الذاكرة؟ ربما هو فضول الصحفي.
أجابني مازن قائلًا:
هذا المراجع يعيش حالة نفسية تعيقه عن التأقلم مع محيطه الاجتماعي منذ خروجه من السجن، الذي قضى به محكومية صدرت ضده، وهذه نتيجة طبيعية قد يتعرض لها أي سجين مثله، خصوصاً إذا عرفنا أن السجناء لا يعرضون على مختص نفسي يهيئهم نفسياً قبل الخروج من السجن، فليتك يا صديقي تكتب عن ذلك وتنبه لضرورته.
أنهى كلامه بذكر تلك الضرورة ورغم أهيمتها إلا أنه لم يكن في إجابته ما يشبع فضولي حول ما تحويه تلك الذاكرة بالضبط، وعدت لأسأله عن ذلك بالتحديد متخلياً عن أي شعور بالحرج قد يكون رافق السؤال الأول؛ ليجيبني بأن المراجع يحمل الكثير من الذكريات والأحداث العالقة في ذهنه، والتي مرت عليه أثناء سجنه، و حين قصدني فإني بدوري حاولت أن أضع له برنامجاً علاجياً من خلال استحضار الذاكرة بشكل يومي بعد أن يكون مسترخياً على السرير، وحين يغرق في ذكريات الماضي أتركه يتحدث بالتفاصيل الدقيقة وأكتفي بتسجيلها في هذه الذاكرة، ليكون بذلك قد فرّغ شيئا مما بداخله، ولأعرف أيضاً مسببات المتاعب الحالية من خلال معرفة الظروف التي مرّ بها. كان يوسف كمن أخرج من لجة بحر تلاطمت أمواجه، يريد أن يقول كل شيء ولا يدري من أين يبدأ، وبعد حديث مطول،، استطعت أن أساعده في وضع محاور عديدة لسنوات وأيام سجنه ووعدني أن يحضّر لكل محور قبل الجلسة،، حتى انطلق مع الأيام وصار يذكر حتى التفاصيل الجميلة نسبياً ني تجربته.
(اووووه،،، جميل جدا يا دكتور) أقولها وثمّة أفكار تدور برأسي حول ما سمعته توحي بأن ما بداخل هذه المذكرات سيكون بمثابة الكنز لي، وقد يقودني لمعرفة الكثير من الحقائق داخل السجون.
وبكل هدوء ووضوح أوضحت ذلك له، وطلبت أن يتيح لي فرصة الاستماع إليها بل رجوته كثيراً بأن يساعدني من أجل ذلك.
هو بدوره لم يكن لديه معارضة لطلبي، ولكنه أرجع الأمر لصاحبها، فهو من يستطيع السماح لي بذلك، ووعدني أنه سيستأذنه وسيشرح له أهدافي من ذلك عند زيارته غداً قبل أن يضحك وهو يقول لي:
_ قبل قليل كنت تشتكي من الخطوط الحمراء في صحيفتكم وها أنت تطلب مذكرات قد يكون ما بداخلها خطوط تحمل كل الألوان وتقطع رزقك، كما قلت لي بأن زملاءك يتهمونك بأنك بتحقيقاتك تريد أن تقطع رزقهم لو تنشر.
_ يا دكتور: الرزق من الله سبحانه وليس في يد رئيس التحرير أو غيره قَطْعه، ولكن مشكلتي مثل ما شرحت لك يا صديقي أنني لم أستطع أن أعمل - كأغلبية زملائي - وفق إطار معين للصحافة، مع أنه أسهل لي بكثير من حيث الجهد وتوفر المواد، وبداخلي ما يجعلني مصراً على أن أكون صوتاً حقيقياً لقضايا الناس الشائكة ولهذا تعبت وقادني ذلك –كما تعلم- للمجيء إليك.
_ أتفهمك جيدا يا صديقي ولا تقلق فحالتك ليست مرضية بل حالة طبيعية لأصحاب المهنة الإعلامية الذين لا يرضيهم رؤية الظلم والفساد في مجتمع تكثر فيه تلك الأوحال بينما لا يغطي الإعلام ذلك وهو بمقدوره. ومن ناحية الذاكرة الرقمية أعدك أن أتكلم مع يوسف وأحاول إقناعه بذلك عند زيارته القادمة..
بالنسبة لي فقد تحول الأمر إلى عدم اكتراث لما أتيت من أجله هنا، وأصبح كل همي الآن منصب حول موافقة صاحب الذاكرة الرقمية. استأذنت مازن بعد أن اتفقنا على أن تجمعنا جلسات أخرى سواء في العيادة أو خارجها، ودعته وغادرت.
اليوم هو اليوم الخامس بعد لقائي بمازن، لا أريد أن أحرجه باتصالي للسؤال عن مأربي وفي نفس الوقت توجست خيفة بأن يكون قد نسي الأمر.
وبينما أنا في طريق العودة للمنزل من العمل، تجاوبت بحماس مع اتصال وردني من الدكتور الذي طلب مني الحضور للعيادة، فانطلقت إليه على الفور.
كان الدكتور مازن ويوسف ينتظراني، ولم يحتج الأمر لوقت طويل كي أفهم أن طلبي أجيب، بعد أن تحدث الدكتور حوله قليلا، وترك ليوسف المجال ليتحدث.
قال يوسف: أخبرني الدكتور عن رغبتك وأهدافك من الاستماع إلى مذكراتي الصوتية، ولم أجد عذراً لرفض طلبك، ولكن أريد أن تعذر لي تحفظي على بعض منها والتي لا أرغب أن يسمعها الآخرون، وعليه فقد أخبرت الدكتور أن المذكرة التي سأضع عليها علامة حمراء ليست متاحة لك للاستماع إليها.
لم يكن ذلك الشرط ليلغي الشعور بالفرح الذي أعيشه، رغم أنه خلق لدي فضولاً قوياً لمحتواها، شكرت لهما إتاحة هذه الفرصة، وأخبرتهما أنني سأسعى لأن أفرغ ما تحتويه كل ذاكرة لأضعه في زاويتي كسلسة مقالات..
علق يوسف متبسما:
ظننتك ستسمعها وترى إن كان فيها ما يستحق الكتابة عنه. صمت قليلا ثم تابع ضاحكا: فقد لا تجد فيها ما يفيدك، فليست سوى أحداث، قصص، سوالف، مرت بي وأحاول هنا أن أستعيد لحظاتها لتظهر على شكل بوح أستدعي عبره تلك الأحداث التي عشتها، وكلماتي فيها أقل من أن تصفها كما عشتها، وما أعرفه أنكم ككتاب تبحثون عن الكلمات المنمقة والمصطلحات الصعبة والاستدلالات بأقوال بعض المفكرين الغربيين لكي تستعرضوا ثقافتكم أمام قرائكم، و لن تجد ما يجعلك بهذه الصورة أمام قرائك، فكل ما سجلته عن تلك اللحظات التي عشتها عبرت عنها بعفويه وببساطة.
كنت أستمع لما يقول مبتسما، مستغربا تلك النظرة لديه عن كتاب صحافتنا قبل أن ينتبه ويقول كالمستدرك:
_ أتمنى أن لا يغضبك كلامي فأنا لم أقصد فيه الإساءة، ولكن أتذكر الكثير من الكتاب الذين كنت اقرأ لهم في السجن ولم أجد طيلة تلك السنين في حروفهم شيئا يشعرني بأنهم يعيشون معنا في نفس المجتمع، وبالصراحة أنت شخصيا -وهذا قصور مني - لم أقرأ لك خلال تلك الفترة، ولم يمر عليّ مقال تحت اسمك.
تحدثت لأخبره أن كلامه لم يكن فيه إساءة ولم يثر غضبي أبدا بل أحترم وجهة نظره وإن كنت استغربها، وأيضا أخبرته أنني حديث عهد بالصحافة وبكتابة المقال، وأن أكثر ما دفعني و أثار حماستي للمذكرات ليس حبا في كسب شعبية أو لأنال إعجاب القراء، بل لأن أكشف بها ما يغيب عنا من أسرار خلف القضبان، لذلك سأضعها بصدقها وعفويتها أمام القارئ دون أن أحاول تغيير لفظ أو وصف، فقد أنزع بذلك منها روح المكان والحالة.
أصبحت العيادة وجهتي يوميا بعد نهاية فترة عملي، لعلي أحصل على ذاكرة ذلك اليوم، وكان اليوم الذي لا أجد فيه يوسف قد حضر، أو أن الذاكرة قد علمت بالأحمر يوما غير جيد بالنسبة لي. وهذه الحالة بقيت عليها طوال الأشهر القليلة الماضية والتي استطعت معها الحصول على سبعين ذاكرة صوتية.
في البدء حرصت على الحضور يوميا وكنت أتساءل في حال تخلف يوسف عن الحضور، بعد ذلك هدأت وتيرة الانضباط التام في المواعيد من قبل الطرفين لكن الاهتمام لم يهدأ أبدا.
فقد كنت مستمتعا كثيرا بعملية التفريغ الورقي لكل ذاكرة رقمية، حرصت على قراءتها مراراً رفقة التسجيل الصوتي ومن ثم لوحدها لأتأكد من عدم تفريطي بكلمة هنا أو حدثا هناك، ثم خصصت لها ملفاً وضعته في زاوية آمنه في مكتبتي.
كنت كلما أنهيت إحدى تلك المذكرات زادتني حماسة لمعرفة ما بعدها، وانتظار اكتمالها أمامي لعلّي أبدأ بعدها النشر تحت عنوان "حكايا يوسف".
وبكل أمانة فإنه كان حكّاء جيداً، يجيد سرد القصص و يبدع كثيرا في الوصف، له صوت هادئ ونبرة حزينة، وأحيانًا تأتأة لم تكن لتفض عنفوان السرد لديه. لذلك فقط كنت إلى جانب استماعي المهني. أتلذذ بسماع قصة. بغض النظر عن الحزن أو الفرح الذي بداخلها، وإنما كنت أسير المفاجآت.
غياب يوسف عن العيادة لم يكن كالمعتاد هذه المرة، ورغم عدم انضباطنا في مواعيدنا مؤخراً إلا أنه مضى أكثر من شهر و هو لم يحضر بعد أو يتصل بالعيادة، مما جعلني أشعر بقلق بسيط على مصير الحكاية وعليه أيضا، ولا أخفي بأني اعتدت عليه وألفت صوته وحكاياته.
طلبت من صديقي الدكتور مازن أن يتصل به ليطمئننا عن أحواله وسر غيابه، ولكن مازن أخبرني أنه قد حاول ذلك ووجد أن جميع هواتفه المسجلة بالملف مقطوعة عن الخدمة، وليس في اليد عمل شيء سوى الانتظار فقد يكون حضوره قريباً، ولا أذيع سراً فقد رفض الدكتور منحي أي معلومة خاصة تمكنني من السعي بطريقتي الخاصة للوصول إليه موضحاً بأن ذلك انتهاك لخصوصيات المريض وأخلاق المهنة.
استمر اختفاء يوسف ما أثار الاستغراب وأحياناً السخط من جانبي، ثم القلق نوعا ما. قبل أن يتلاشى كل ذلك شيئا فشيئا مع طول مدة غيابه و مع مشاغل وهموم الحياة اليومية التي تزاحمني أكثر من غيري كما يعلق الدكتور مازن ساخرا ً، كوني أعيش هموم الناس لأضيفها إلى همومي بسبب طبيعة عملي. ولم ينته تصادمي مع مسؤولي الصحيفة قبل أن أصل لحل يرضي ضميري بنشر المواد التي أعرف بأنها ستمنع في صحيفة الكترونية كنت قد أنشأتها من أجل أن تكون الملجأ لي ولغيري ممن يعانون نفس حالتي مع الصحافة، وتكون المواد بأسماء مستعارة لكي لا نقع في إشكالية مع المؤسسة الصحفية التي نعمل بعقود معها.
مرت السنوات سريعا وأقفلت صحيفتي الالكترونية لضائقة مالية مررت بها، وتركت عملي في الصحافة بعد أن وجدت الصحيفة أن بقائي محرج لهم ولم يكن لي قبول في أي صحيفة أخرى، فكل المسؤولين في الصحف تربطهم صاحبة الجلالة بروابط وثيقة، وقد أخبرني أحد الأصدقاء وهو يحاول أن يبرر لي مواقف رئيس التحرير والبقية من الزملاء في الصحف الأخرى بقوله أن هناك توجيهات قد وصلت إليهم أجبرتهم على إبعادك ولذلك يجدون أنفسهم مجبرين على الاعتذار منك وهم في حرج لعدم استطاعتهم البوح لك بذلك.
وبعد حوالي ست سنوات وبينما أنا أدوّن تغريدة على حسابي في تويتر من خلال أحد الأوسمة الذي أنشأه أحد المغردين يدعو من خلاله للاعتدال والوسطية والوقوف معا ضد دعاة التشدد والتطرف، و ما أن أنهيت كتابتها دون أن تمر على رقيب يجيزها أو محرر يعدل فيها، لتصل للعالم أجمع خلال ثانية واحدة وصلني رد من الدكتور مازن كتب فيه (يا صديقي مع تغريدتك الأخيرة هذه، لا أعلم لمَ حضر يوسف.! ارفع الحصار عن حكاياته.!)
اتصلت به على الفور لأجد بأننا مع ذلك الاتصال نعود بالذاكرة للوراء ونسترجع يوسف وحكاياته.
كنت متوجهاً لمكتبتي، وجدت الملف لازال مكانه بعد كل هذه السنين صامداً كحكايات يوسف بداخله، ولم ننه الاتصال إلا بعد أن وعدته بنشرها في كتاب ووعدني ببعض الإضافات التي يعرفها من خلال أحاديثه مع يوسف أو من خلال قراءته الخاصة لحالة يوسف وأشباهه مما هو متاح له نشره من بعد أن أوضحت له ضرورة ذلك من أجل إفادة القراء.