كتاب " أزمة النخب العربية " ، تأليف د. حسن مسكين ، والذي صدر عن مؤسسة الرحاب الحديثة للنشر والتوزيع .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب أزمة النخب العربية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
أزمة النخب العربية
2- الــواقـع السيـاسـي، وأزمـة الحـريـات
لا شك أن المجال السياسي يعد أحد المداخل الحاسمة في بناء أي مشروع تنموي فعال، إذ بدون تحديد الخيارات السياسية التحررية، وإشراك كل طاقات المجتمع في القرار السياسي، بحيث يتحول من منحة فوقية، تتحكم فيها مقاصد آنية أو نزوات فردية إلى سلوك يومي، ومقوم أساسي يوجه حياة الأفراد والمؤسسات على حدٍ سواء دون تمييز، ستظل هذه المحاولات التنموية مجرد شعارات تلقى في المناسبات وتعرض في المؤتمرات، وتندرج في خانات التوصيات العابرة، سيراً على نهج الندوات والملتقيات العربية المتتالية.
ويبدو أن تلك سمة طبعت السياسات العربية على امتداد التاريخ الحديث، انعكست آثارها السلبية على مجالات عدة، منها السياسة الثقافية التي غلب عليها الضعف والتخبط والخطابة المتضخمة. خاصة إذا تأملنا علاقتها بالبعد السياسي العام في ظل تحولات عالمية متسارعة، وثورة معلوماتية بلغت أوجها، زادت من تعميق الأزمة حيث برزت مفاهيم جديدة للعدالة الاجتماعية والديموقراطية والحرية والملكية الفردية وغيرها من المفاهيم التي أثبتت تقارير اليونسكو وغيرها أن تمثلنا لها وعطائنا فيها ضعيف، وأن "خيالنا السياسي والاجتماعي [فيها] يتسم بالخمول والبعد تماماً عن الطفرات التي يحققها خيالنا العلمي، الأمر الذي أدى بدوره إلى قصور ثقافي بين العلم والتكنولوجيا من ناحية، وبين مؤسساتنا الاجتماعية والسياسية من ناحية أخرى"([15]). يضاف إلى ذلك هذا التخبط الواضح في رسم سياسات تنموية واقعية، ومنتجة، بإمكانها أن تعمل على تجاوز حالة الجمود، والتبعية، والتشتت المستمر على مستوى المؤسسات التي تعمل بمعزل عن خيارات شعوبها وتتناسى حاجياتهم الأساسية الآنية أو المستقبلية. فكل بلد عربي يرسم أهدافاً خاصة، لا تراعي وحدة الأمة، فتعمل على سن برامج ونظم تعليمية مختلفة، ومتضاربة بعيداً عن تلك الشعارات الوحدوية التي ما فتئت ترددها في مؤتمراتها.
ويبدو أيضاً أن هذه السياسات ظلت محكومة بإرث الماضي، ولم تستطع بعد النظر بعين النقد للحاضر، والتهيئ للمستقبل، فما زال الأموات عندنا يتحكمون في الأحياء. وتزداد الصورة قتامة حين تحتكر الدولة في البلاد العربية كل تخطيط أو سياسة، في ظل شبه غياب للمجتمع المدني والهيئات القادرة على العطاء في هذا المجال، لا سيّما وأنها تتحرك متحررة من قيود الساسة وتوجيه الأحزاب. والحال أنه حينما تغيب هذه الهيئات المؤهلة، تكون الحصيلة سياسات طوباوية أو ريعية موجهة وانتقائية، تضرب أقدس المقومات ألا وهي مقوم العدالة الاجتماعية، سواء تعلق الأمر بحرية الاختيار أو توزيع الثروات أو حق التعليم والمعرفة والأعلام([16]).
ولأن الثقافة تعد في قلب العملية التنموية، وإحدى الحقوق الأساسية للشعوب، فإنها تتصل اتصالاً وثيقاً بالسياسات المتبعة في البلاد العربية، بل إنها الصورة التي تعكس حقيقة هذه التوجهات لا سيّما الرسمية منها. حيث غالباً ما تستند هذه السياسات على اختيار التدجين، وتكريس الوقائع، وإنتاج ثقافة الاستهلاك. والتنمية التي تخدم فئات محدودة تستفيد من هذه الأوضاع، وتعمل بكل الأشكال على ترسيخها لتصبح هي القاعدة والمرجع الوحيد. أما المحاولات الأخرى التي تجترها نخبة من المفكرين والمثقفين والسياسيين الصادقين، فيتم عزلها أو التشويش عليها وتشويهها، تحت ذرائع مختلفة، وتبريرات متنوعة. وهكذا تتضاعف حدة الصراع والصدام بين خيارات الساسة وخيارات النخب، والشعوب، وتتسع الشقة بين مكونات المجتمع العربي، فيتم تعطيل هذه الجهود، وتثبيت مظاهر التخلف السياسي الذي يبدو أنه لم يترك مجالاً إلا وأصابه بعدواه.