كتاب " أزمة النخب العربية " ، تأليف د. حسن مسكين ، والذي صدر عن مؤسسة الرحاب الحديثة للنشر والتوزيع .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب أزمة النخب العربية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
أزمة النخب العربية
لكن قد يعترض أحد بالقول: وما دخل السياسة في الثقافة؟ أليس من الأجدى أن يحتفظ كل بمجاله الخاص وإطاره المحدد؟ نعم إن لكل منهما مجاله الخاص، غير أن ذلك لا ينبغي أن يدفعنا إلى القول بتقاطعهما، بل بتبادل التأثير، ذلك أن السياسي لا يعيش في جزر معزولة، لا يسمع فيها إلا خطابات تهم حقله الخاص، وإنما هو شخص منخرط في قلب المجتمع، فاعل، ومتصل بأحداثه، وتصورات ورؤى أناسه الذين اختاروه. كما أن المثقف وإن لم يكن سياسياً، إلا أنه مهموم بأمورها، منشغل بقضايا الناس الذين يكتوون بنارها. خاصة إذا كانت سياسة متوحشة، ظالمة. لهذا فالمثقف المتميز هو الذي يشارك الناس همومهم وانشغالاتهم ويعمل على كشف تناقضات السياسيين وطموحاتهم اللامحدودة، خاصة إذا كانت تسخر الشعوب لهذه الأغراض، وتتوسل لذلك خطاباً مقنعاً بمفاهيم ثقافية براقة وجذابة، تسقط الجماهير في شراكها، دون أن تجد من يكشف خططها أو يفضح ألاعيبها([17]). وبذلك يكون المثقف فعلاً قد كشف عن دوره الفعال في النقد البناء في التنوير، والمشاركة في البناء والتنمية التي تتحرر من قيود السياسة المتوحشة. على أن دور المثقف المستنير لن يقف عند هذا المستوى، بل إنه مطالب "ببذل الجهد من أجل الكشف عن المسكوت عنه، أو نزع القناع الإيديولوجي الزائف- كما يرى كارل مانهايم، والذي يخفي وراءه باطناً آخر، ويعمد المثقف إلى هذا من خلال الشك الذي لا يتيسر له إلا من خلال وبفضل المسافة الفاصلة بينه وبين السلطان، ويعمد إلى تأويل ما بطن من كلام ومقولات ومصالح خافية ونزع التسلط تحت أي مسمى طائفي أو ديني. والمثقف نزاع إلى التغيير ونزاع إلى إثارة التساؤلات إزاء ما هو مطروح في سوق الأفكار والسياسة، بل وفي سوق العلم والمعرفة، إذ ربما تكون أوهاماً أو سوقاً تخفي انحيازات ومصالح"([18]).
لكن بالمقابل يجب التحذير من التوظيف المعكوس، حيث تصير الثقافة في خدمة المصالح السياسية الفئوية، فتتخلى عن دورها الفاعل في انتزاع الحريات، والحقوق وبناء دولة المؤسسات. ويبدو أن السياسة في بلادنا العربية كثيراً ما جنحت إلى الثقافة، لا بهدف تحريرها وتنميتها، وإنما بهدف توجيهها وجهة مصلحية، خاصة، دفعت بأحد رموز الفكر العربي الحديث إلى الإعلان على أن نقطة البدء في التنمية "يجب أن تكون تحرير الثقافة من السياسة. لقد هيمنت السياسة على الثقافة في معظم الأقطار العربية، فكانت النتيجة ما نراه من انحدار مستوى التعليم وانتشار الأمية: أمية القراءة والكتابة وأمية الفكر والثقافة واتساع الهوة بين "التقليدي" و"العصري" في مختلف مجالات الحياة، وأخيراً وليس آخراً سيادة القوانين الإيديولوجية الجاهزة التراثية والحداثية معاً ، على الفكر العلمي النقدي. وبعبارة واحدة لقد سادت السياسة على الثقافة فقتلتها، وهذا ما يحصل في كل زمان ومكان، فالسياسة سلطة والثقافة حرية. والسلطة تقتل الحرية، تكبلها وتلغيها"([19]).
وهكذا تغيرت وجهة الثقافة من مقاصدها البناءة وأهدافها النقدية والمعرفية لتتحول إلى موقع المنافسة على مواقع مشبوهة، كانت من قبل محصورة على زمرة من السياسيين المرتدين عباءة الثقافة. لقد عانت الثقافة في البلاد العربية وأصبحت هذه المعانات سمة لافتة للنظر، تستدعي وقفة متأنية وطفرة نوعية تعيدها إلى موقعها الطبيعي ومكانتها الرفيعة التي انتزعتها منها السياسة، حتى تؤدي دورها في التغيير والتنمية، بعيداً عن سلطة هيمنة الساسة وأيديولوجياً الأحزاب المعلبة. وإذا كان د. محمد عابد الجابري يدعو إلى تخليص الثقافة من السياسة؛ فإن د. محمد الأشعري يدعو إلى إدماجها في الحقل السياسي.
وإنه لمن النادر أن نصادف اعترافاً من مسؤول عربي بحجم وزير الثقافة بهذه الوضعية المتأزمة للثقافة التي عانت ولا تزال تعاني من هيمنة السياسة والإيديولوجيات النمطية. إنها رؤية نقدية، بناءة، نأمل أن تشيع بين السياسيين العرب، لا سيّما أولائك القائمين على مؤسسات رسمية من حجم وزارة الثقافة، يقول د. محمد الأشعري مؤكداً على ضرورة إدماج الثقافة في الحياة السياسية منتقداً الأحزاب السياسية: "إن الحاجة ملحة أكثر من أي وقت مضى إلى إعادة إدماج البعد الثقافي في المجال السياسي. والاقتناع بأن أزمات التحول هي في عمقها ثقافية. لكن الأحزاب لم تعط مكانة أساسية للتفكير الثقافي. وذلك ما يبرر غياب الاجتهاد النظري والإيديولوجي. فما يسود في المغرب اليوم هو السياسة الخام التي تفتقر إلى الروح الثقافية التي كانت وراء الطفرات النوعية في المغرب الحديث (..) فقضايا تأثير العولمة على الهوية والوجود تتطلب روحاً جديدة. وفي هذه الفترة التي يتسنى فيها جمع الديموقراطية والحداثة، نحتاج إلى إدماج الثقافة في الحياة السياسية. والسؤال هو كيف يمكن بناء حداثة في مجتمع استهلاكه الثقافي جد محدود"([20]).