كتاب " أمل في الظلام ( حكاية أم مع طفل التوحد) " ، تأليف خلود خوري رزق ،والذي صدر عن مؤسسة الرحاب الحديثة للنشر والتوزيع .
أنت هنا
قراءة كتاب أمل في الظلام ( حكاية أم مع طفل التوحد)
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

أمل في الظلام ( حكاية أم مع طفل التوحد)
ها هي الأيام تُثبت صِحّة إحساسي.. كانت عيناه اللتان غاب عنهما البريق، تـشردان إلى ما وراء الأفق، مُحدقة في اللانهاية من الكَون. هكذا كنتُ أشعر بصمت، كم تمنّت أذني أن تسمع نغمات حنجرته الذهبية...
كانت ضحكاته وابتساماته تملأ الحياة دون سبب يُذكر، عَلِمتُ لاحقاً أنها علامة من علامات مَرَضه الذي أخفاه عن عيوننا بضعة اشهر..
لم أدرك في ذلك الوقت حجم المأساة التي ستواجهني أو التي أواجهها. يبدو أن الأيام التي تنتظرني ستكون شاقة أكثر، لكنني كنتُ عازمة عل حماية ولدي المبتسم الذي انتظرته طويلاً.. أجهّز نفـسي وأعدّ الأسلحة كي أحارب حالة لم أسمع عنها من قبل، لكني عشتها بحذافيرها لحظة بلحظة..
هو بطل أحلامي.. ذلك الطفل الذي باتت رؤيته أمراً يُحيي غضباً مستكيناً... الآن، وأنا أذكر ملامحه، أذكر احتلاله للمساحة الأكبر من حياتي، ولم يترك أي فراغٍ لـشيءٍ آخر. شغلت عيناه مهام لسانه فبات يُعبّر بهما عن الحزن والفرح، عن الغضب والألم في آنٍ واحد، كأنهما اختصرتا ألم وسرور الدنيا داخلهما فقط...
هل من عدل القدر أن أكون أمّاً لا تسعد "بنغنغات" وتلعثم حروف مولودها؟..
عجز لسانه عن الكلام، وَدَخل في صمتٍ تُحَرِّكه بعضُ صرخاتٍ بين الحين والآخر، وُلدت عندي أزمةٌ مباغتة دون أن أرى لها نهاية. في بداية الأمر، لم أدرك السبب الأساسي لِعدَم إطلاق سراح الحَرف وتأخّره عن الكلام مثل باقي الأطفال... نظراته اختلفت كثيراً وأصبح لغزاً يحتاج إلى حل!
الآن، اشتقت إليه حقاً.. تمرّ الأيام وأنا عاجزةٌ عن الذهابِ لرؤيته خوفاً من الألم الذي يسكنني.. لستُ الأم الوحيدة التي عاشت مع طفل التوحّد، فقد علمتُ مؤخراً أن مرض التوحّد منتـشرٌ ومعروف، وتُجرى إلى يومنا هذا أبحاثٌ لكشف سره وأسبابه.
منذ أن تنبّه العلماء للأعراض التي سمّوها فيما بعد التوحّد، ما زالت الأسباب غير معروفة بصورةٍ دقيقةٍ وثابتة (وأحياناً مبهمة)، وذلك لِعدم وجود عارض بعينه، وإنما هناك مجموعةٌ من الأعراض تختلف من حيث الشِدّة وَالنوعية من طِفل إلى آخر، ومن حالةٍ لأخرى، وأن هناك فَرَضياتٍ مُتَعدّدة تُعنى في أسباب التَوَحّد، وَلَكِنها سُرعان ما تَنهار أَمام الفَرضِيات الأكثر حداثة.
أعود بذاكرتي إلى أربع عـشرة سنة مرت، هي عمر ابني وسيم، الذي جمع ما بين دموع الآن وقهقهة الزمان. إن ضحكه المستمر بسبب لا شيئ وبكائه المتواصل دون أسباب، ظنّه البعض أنه طفولي، لكنني وحدي ووالده (بشعورنا الفطري الداخلي) عَلمنا ما يخبّئ داخله؛ إنها دموعٌ حارقة يحارب بها عالماً لا يريده ولا يجد لذاته مكاناً فيه.
منذ الأشهر الأولى لولادته وأنا أبحث عن سببٍ واضحٍ لعدم تجاوبه مع نغماتي... أغنيات ربيعي الذي انطفأ وولّى ليترك مكاناً لخريفٍ قادمٍ دون استئذان من الصيف الحار...
كان حلمنا، أنا ووالده، يتلاشى في عيون المُقرّبين، أصحاب النظرة اللائمة وتعابير الوجوه الـسريعةِ الغضب. علامات استفهامٍ تجول في خاطرهم عن سبب اختلافه عن باقي الأحفاد، لم يكتفوا بحكم القدر لكنهم تعمدوا دائماً باتهامنا بأسباب مرضه الذي لا نعلم عنه شيئاً..
في أصل الحكاية لم يكن في عائلة وسيم الكثير من الأفراد (العزوة) كما سماها العرب القدامى، كان وسيم الطفل الذكر الثاني في عائلةٍ تترجى النهوض بأبنائها حيرة جده الذي تمناه الحفيد الأفضل تكـسر ضلوعي ألماً، كما أضناني حزن والدي الذي يخبئه عن كل الناس إلا ناظريَ....