لم تكن الإنجازات المذهلة لثوماس ادوارد لورانس، ذلك الشاب خريج جامعة أكسفورد، معروفة للناس عند انتهاء الحرب العالمية الأولى.
أنت هنا
قراءة كتاب لورنس في بلاد العرب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 8
وكان ذلك يتناقض بحدة مع أساليب وتجارب المهندسين الألمان الذين يبعدون نصف ميل فقط عن الموقع، والذين كانوا يبنون جسر خط حديد بغداد عبر نهر الفرات. فقد كان لديهم عمالهم الذين بدوا مليئين بالازدراء والبغض. ولم يستطع المهندسون الألمان أن يفهموا لماذا كان العمال العرب لا يقبلون نظامهم التأديبي وعقابهم. وكان الألمان يحتاجون دائماً إلى عمال جدد، في حين أن الانجليز، الذين كانوا يبعدون عنهم بضعة مئات من الياردات، كانوا على وفاق تام مع عمالهم، ومسيطرين عليهم. وعندما حدث مرة أن أجبروا - أي الإنكليز - على تقليص عدد عمالهم والاستغناء عن خمسين عاملاً منهم، فإن العمال العرب والأكراد ابتسموا واستمروا في عملهم. وعندما أبلغوا بأنهم لن يحصلوا على أجورهم، ابتسموا أيضاً واستمروا بعملهم، لأن حب عملهم وحب معلميهم كان هو الدافع للعمل أكثر من المال.
ولم يكن أولئك العمال البسطاء يمارسون عملهم في الحفريات والتنقيب من دون اهتمام، فهم قد فهموا حماس معلميهم الذين علموهم مشاركتهم في متعة العمل؛ فلم تكن حفرياتهم عبارة عن كدح من دون معنى من أجل المال فحسب، وإنما كانت بدلاً من ذلك مشاركة في متعة علم الآثار.
«وكنا نرتاح في الليل، وكانت أفكارنا وعقولنا مليئة بقصص الشرق، حيث اختلطت فيها قصص المسيحية والوثنية، والحثية، والإغريقية، والرومان، قصص الماضي العريق مع القصص الحالية القذرة والخسيسة، ممزوجة بخلفية الجهد الألماني النشط والإنجاز الهادئ من قبل هذين الانجليزيين وممثليهم من الرجال ذوي النشأة البريطانية. وكنا ننام طويلاً وبشكل جيد على أغطية مطوية في غرفتنا النظيفة ذات الجدران الطينية، ولم يكن نومنا الخفيف ليتأثر بأغطية سرائرنا المصنوعة من القماش الذهبي اللون الدمشقي ذي الزخرفة العربية النادرة وبخلفيتها الحمراء الغامقة والباهتة مما تدعو العين إلى رحلات خيالية لا تنتهي. فهذه الأغطية القديمة كانت تشكل بعض كنوز لورنس، جُلبت من رحلاته المتعددة للقرى العربية، والتي كانت أمكنة وجوده فيها لا تعرف لعدة أسابيع.
وكان لورنس خلال تلك الرحلات، وهو يرتدي الملابس العربية الأصلية، يخوض في محادثات مع شيوخ القرى وهم يجلسون في ركن مظلل من الخيمة، أو يأتي ليفهم ومن ثم يعجب بالعرب في محادثة هادئة أمام نار مشتعلة حيث يجلسون على الأرض، فيما تعد القهوة وتشرب بهدوء، ويتحدث الواحد تلو الآخر. بينما كان أربعون مهندساً ألمانياً يبنون جسرهم، ويحاولون إخضاع هؤلاء السكان في حالة عدم إطاعتهم لهم، فرجل إنجليزي، واسع الفكر، لطيف الشخصية كان يعد بطريقة لا واعية ليصبح قائدا لهؤلاء الناس في الأزمات العظيمة، ليس فقط لتدمير أحلام الألمان بالغزو، وإنما أيضاً لكسر العبودية السياسية للأتراك التي دامت قروناً.