كتاب " ضيوف ثقال الظل " ، تأليف جعفر العقيلي ، والذي صدر عن دار الآن ناشرون وموزعون .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب ضيوف ثقال الظل
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ضيوف ثقال الظل
وحدثَ مرّةً أنْ حاولتُ إحصاءَ عددِ الذين تزدحمُ بهم أروقةُ دفاتري، لكنّني تراجعتُ، مُبَيِّتاً في نيَّتي أن أقتنيَ دليلَ هاتف وطنيّاً، يُريحني من علاقتي الشّائكة بالدفاتر، ثمّ أقلعتُ عن تلك الفكرة عندما علمتُ أن طبعةَ الدّليل المتوفّرة في السوق قديمةٌ، ولا تفي بالغرض.
هذا ما دعاني إلى اتّخاذِ قرارٍ من نوعٍ مغاير، أُخَفِّفُ فيه وطأةَ شعوري بسطوة الحضور الطّاغي للآخرين في حياتي، غير آبهٍ بما قد ينتج عن ذلك من عواقب.
ذلك أنّني كنتُ كلّما لجأتُ إلى الدفاتر أنبُشُ فيها بحثاً عن رقمِ شخصٍ لأهاتفه، أضطرُّ إلى قراءة الأسماء جميعاً، لعدم ترتيبها ألفبائياً أو أبجديّاً، وكلّما مَرَّ من أمام ناظري اسمٌ، يستوقفني ويوقِعُني في شَرَكِ الماضي.. ذلك الذي كَمْ أقْنَعتُ نفسي أنّني تجاوزتُهُ، وإلى الأبد، لكنّني سرعان ما أنقادُ إليه قَسراً، وعلى غفلةٍ منّي، كلّما عَنَّ لَهُ ذلك.
ففي ما بعد، أصبحتُ أشعرُ كأنّني أستحضرُ عبرَ دفاتري، أرواحَ الغائبين عني والمغيَّبين، فيَمُرُّون في ذاكرتي، واحداً واحداً، بتفاصيل ومن دونها. أُجهدُ نفسي في تذكُّرِ معظمهم جيّداً، أو نسيانهم تماماً، لكنّهم يأبون، ويظلّون مُعَلَّقين بينَ بين، خصوصاً أولئك الذين لم أعُدْ قادراً على الاهتداء إلى ملامحهم بوضوح، لتبقى علاقتي بالأسماء فقط وقد غابَ أصحابُها. علاقةٌ باردةٌ، جافّةٌ، محايدةٌ، تُصيبُني بصداعٍ لا يزول إلاّ بإغلاق الدفاتر ودَفْنِها بين أوراقي هرباً من عالمها «السُّفلي».
لأعترفَ أنّ حالةً من الكآبةِ بدأتْ تُعَكِّرُ صَفْوي، وخليطاً من الخوف والقلق صار ينتابُني، كلّما أجبَرَتني الظروفُ على الاقتراب من الدّفاتر. فَمُجَرَّدُ التفكير في أنّ أشخاصاً بهذه الكثرة يعيشون معي تحت سقفٍ واحد، وينتظرون أن أفتحَ البابَ بحثاً عن أحدهم لينتشروا جميعاً في محيطي، أمرٌ يدعو إلى الضيق، خصوصاً أنّهم في معظمهم لا يعرف بعضُهُم بعضاً. بل حتّى إنّهم يختلفون -من النّقيضِ إلى النّقيض- في الأمزجةِ والرّغبات والنّوايا والأعمار، وليس يجمعهم هنا سوى حفَّار قبورهم: أنا. فلولا معرفتي بهم، ومعرفتهم بي، ما كانوا التقوا بهذه الفوضى بين دفاتري التي بدا الدُّرجُ الذي يُخفيها قمقماً يحبسُ خلف بابِهِ قبيلةً من العفاريت.
تخيَّلْتُ المشهد: لو أنّ صبايا المدينة اللّواتي كذبتُ عليهنّ طيلةَ معرفتي بهنّ، فادّعيتُ لكلِّ واحدةٍ أنّني لا أعرفُ سِواها، يلتقينَ هنا، كما تلتقي أسماؤهنّ وأرقامُهنّ في حضرتي، ليكتَشِفْنَ مقدارَ خيانتي وخداعي الذي حكْتُهُ جيّداً.
خلاصةُ الأمرِ أنّني سئمتُ السّاكنين غير المرغوب بهم، وصار حلمي أنْ أعودَ كسَابقِ عهدي في القرية، حيث قلَّةٌ من الأصدقاء الحقيقييّن. ولهذا أؤكّدُ للمرّة الأخيرة: كان الأمرُ يتطلّبُ قراراً جريئاً كالذي اتَّخذْتُهُ، لأتخلَّصَ من الضّيوف ثقالِ الظِّلّ الذين سكنوا أوراقي أربعة أعوام، وأرهقوني في حشْرِ أنوفهم في حياتي والتّطفُّلِ علَيَّ من دون استئذان.
جمعتُ الدّفاترَ. لم أشأ أن أُقلّبَ صفحاتها لأُوَدِّعها الوداعَ الأخير. ينبغي أن أُقْصيها بِمَنْ فيها عن حياتي. سأُعيدُ ترتيبَ ذاكرتي كما أشتهي بمنأى عن تأثيرها.